للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُحْتَمِلًا لِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِرْثِ بَعِيدًا عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، لَا سِيَّمَا وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تعالى في آخر الآية: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وَأَيُّ حَاجَةٍ تَحْمِلُنَا عَلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَى لَا إِشْعَارَ لِذَلِكَ اللَّفْظِ بِهِ، ثُمَّ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا بِآيَةٍ أُخْرَى مَذْكُورَةٍ مَعَهُ، هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا حَصَلَ إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ المصير إليه إلا أن دعوى الإجماع بعيد.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنْ أَقْسَامِ مُؤْمِنِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ مَا وَافَقُوا الرَّسُولَ فِي الْهِجْرَةِ وَبَقُوا فِي مَكَّةَ وَهُمُ المعنيون بقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا فَبَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَنْفِيَّةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، هِيَ الْوَلَايَةُ الْمُثْبَتَةُ فِي الْقِسْمِ الَّذِي تَقَدَّمَ، فَمَنْ حَمَلَ تِلْكَ الْوَلَايَةَ عَلَى الإرث، زعم أن الولاية المنفية هاهنا هِيَ الْإِرْثُ، وَمَنْ حَمَلَ تِلْكَ الْوَلَايَةَ عَلَى سائر الاعتبارات المذكورة، فكذا هاهنا. وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ، إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْوَلَايَةِ الْإِرْثُ، بِأَنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُوَالَاةِ فِي الدِّينِ وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْوَلَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمْرًا مُغَايِرًا لِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا حَمَلْنَا تِلْكَ الْوَلَايَةَ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ وَهُوَ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلنُّصْرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنْصُرُ بَعْضَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي بَعْضِ الْمُهِمَّاتِ وَقَدْ يَنْصُرُ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ بِمَعْنَى الْإِعَانَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يو اليه بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ فَسَقَطَ هَذَا الدَّلِيلُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يُهاجِرُوا.

وَاعْلَمْ أَنَّ قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يُوهِمُ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُهَاجِرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُمْ مُطْلَقًا، فَأَزَالَ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا يَعْنِي أَنَّهُمْ لَوْ هَاجَرُوا لَعَادَتْ تِلْكَ الْوَلَايَةُ وَحَصَلَتْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحَمْلُ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَتَى سَمِعَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ قَطَعَ الْمُهَاجَرَةَ انْقَطَعَتِ الْوِلَايَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ هَاجَرَ حَصَلَتْ تِلْكَ الْوِلَايَةُ وَعَادَتْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَصِيرُ مُرَغِّبًا لَهُ فِي الْهِجْرَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمُهَاجَرَةِ كَثْرَةُ الْمُسْلِمِينَ واجتماعهم وإعانة بعضهم لبعض، وحصول الألفة الشوكة وَعَدَمُ التَّفْرِقَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ مِنْ وَلايَتِهِمْ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ فَتَحَ جَعَلَهَا مِنَ النُّصْرَةِ وَالنَّسَبِ. وَقَالَ: وَالْوِلَايَةُ الَّتِي بِمَنْزِلَةِ الْإِمَارَةِ مَكْسُورَةٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَقَدْ يَجُوزُ كَسْرُ الْوَلَايَةِ لِأَنَّ فِي تَوَلِّي بَعْضِ الْقَوْمِ بَعْضًا جِنْسًا مِنَ الصِّنَاعَةِ كَالْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ فَهِيَ مَكْسُورَةٌ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسي: الفتح أجود، لأن الولاية هاهنا مِنَ الدِّينِ وَالْكَسْرُ فِي السُّلْطَانِ.

وَالْحُكْمُ الثَّانِي: مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي قَطْعِ الْوَلَايَةِ بَيْنَ تِلْكَ الطَّائِفَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُقَاطَعَةَ التَّامَّةَ كَمَا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ بَلْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا لَوِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فَانْصُرُوهُمْ/ وَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>