للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَخْذُلُوهُمْ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا قَامَ الزُّبَيْرُ وَقَالَ: فَهَلْ نُعِينُهُمْ عَلَى أَمْرٍ إِنِ اسْتَعَانُوا بِنَا؟ فَنَزَلَ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكُمْ نَصْرُهُمْ عَلَيْهِمْ إِذِ الْمِيثَاقُ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ الَّذِي اعْتَبَرَهُ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَايَةِ الحسن لأنه ذكر هاهنا أَقْسَامًا ثَلَاثَةً: فَالْأَوَّلُ: الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَالِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا فَهَؤُلَاءِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ لَهُمْ فَضْلٌ وَكَرَامَةٌ وَبِسَبَبِ تَرْكِ الْهِجْرَةِ لَهُمْ حَالَةٌ نَازِلَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمْ حُكْمًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِذْلَالِ وَذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمُثْبَتَةَ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ، تَكُونُ مَنْفِيَّةً عَنْ هَذَا الْقِسْمِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِحَيْثُ لَوِ اسْتَنْصَرُوا الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ نَصَرُوهُمْ وَأَعَانُوهُمْ. فَهَذَا الْحُكْمُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِذْلَالِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَلَيْسَ لَهُمُ الْبَتَّةَ مَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِ الْفَضِيلَةِ. فَوَجَبَ كَوْنُ الْمُسْلِمِينَ مُنْقَطِعِينَ عَنْهُمْ مِنْ كُلِّ الوجوه فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصلة بوجه من الوجوه، فظهر أن هذا التريب فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْمُوَارَثَةِ مَعَ اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ كَأَهْلِ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْمَجُوسِيُّ يَرِثُ الْوَثَنِيَّ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَرِثُ الْمَجُوسِيَّ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا حَمَلْنَا الْوَلَايَةَ عَلَى الْإِرْثِ وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ، بَلِ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ لِلْيَهُودِ فَلَمَّا ظَهَرَتْ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاصَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى إِيذَائِهِ وَمُحَارَبَتِهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ ذَلِكَ. وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ وَشَبِيهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إِلَيْهِ، وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَمَّا اشْتَرَكُوا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَتْ هَذِهِ الْجِهَةُ مُوجِبَةً لِانْضِمَامِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ وَقُرْبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا أَقْدَمُوا عَلَى تِلْكَ الْعَدَاوَةِ لِأَجْلِ الدِّينِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْإِنْكَارِ لِدِينِ صَاحِبِهِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ لِمَحْضِ الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَالْعِنَادِ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ قَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فِي هَذِهِ التَّفَاصِيلِ الْمَذْكُورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَحْصُلُ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ/ وَمَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوِ اخْتَلَطُوا بِالْكُفَّارِ فِي زَمَانِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَزَمَانِ قُوَّةِ الْكُفَّارِ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، فَرُبَّمَا صَارَتْ تِلْكَ الْمُخَالَطَةُ سَبَبًا لِالْتِحَاقِ الْمُسْلِمِ بِالْكُفَّارِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ جَمْعُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّ يوم في الزيادة في العدة وَالْعُدَّةِ، صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَزِيدِ رَغْبَتِهِمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَرَغْبَةِ الْمُخَالِفِ فِي الِالْتِحَاقِ بِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: وَالَّذِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>