للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَطْلُوبِ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الشَّرَفِ الْحَاصِلِ مِنْ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ، كَمَا كَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، وَذَلِكَ مَنْصِبٌ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ.

الوجه التَّاسِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَحْزَنْ نَهْيٌ عَنِ الْحُزْنِ مُطْلَقًا، وَالنَّهْيُ يُوجِبُ الدَّوَامَ وَالتِّكْرَارَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْزَنَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، قَبْلَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الموت.

الوجه الْعَاشِرُ: قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَمَنْ قال الضمير في قوله: عَلَيْهِ عائدا إِلَى الرَّسُولِ فَهَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ يَقُولُ مُحَمَّدٌ لِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ/ لَا تَحْزَنْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ السَّابِقَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، فَوَجَبَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُزْنَ وَالْخَوْفَ كَانَ حَاصِلًا لِأَبِي بَكْرٍ لَا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ آمِنًا سَاكِنَ الْقَلْبِ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى قُرَيْشٍ فَلَمَّا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ لَا تَحْزَنْ صَارَ آمِنًا، فَصَرَفَ السَّكِينَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِزَوَالِ خَوْفِهِ، أَوْلَى مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، مع أنه قبل ذلك سَاكِنَ الْقَلْبِ قَوِيَّ النَّفْسِ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِنْزَالَ السَّكِينَةِ عَلَى الرَّسُولِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّسُولَ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ خَائِفًا، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَقُولَ لِأَبِي بَكْرٍ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَمَنْ كَانَ خَائِفًا كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُزِيلَ الْخَوْفَ عَنْ قَلْبِ غَيْرِهِ؟ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ، ثُمَّ ذَكَرَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ نُزُولَ السَّكِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ عَلِمْنَا أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السَّكِينَةِ مَسْبُوقٌ بِحُصُولِ السَّكِينَةِ فِي قَلْبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السَّكِينَةُ نَازِلَةً عَلَى قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ.

فَإِنْ قِيلَ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَى قَلْبِ الرَّسُولِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَهَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالرَّسُولِ، وَالْمَعْطُوفُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُشَارِكًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْطُوفُ عَائِدًا إِلَى الرَّسُولِ وَجَبَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الرَّسُولِ.

قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّةِ بَدْرٍ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ:

فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي وَاقِعَةِ الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ.

الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مِنَ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِطْبَاقُ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى الرَّاحِلَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ هُمَا اللَّذَانِ كَانَا يَأْتِيَانِهِمَا بِالطَّعَامِ.

رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَقَدْ كُنْتُ أَنَا وَصَاحِبِي فِي الْغَارِ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَيْسَ لنا

<<  <  ج: ص:  >  >>