عَنْ أَسْرَارِ الْأَخْلَاقِ، أَنَّ الْأَصْلَ فِي جِبِلَّةِ الْحَيَوَانِ الْخَيْرُ أَوِ الشَّرُّ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَصْلُ فِيهَا الشَّرُّ، وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ بَيْنَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، بَلْ نَزِيدُ وَنَقُولُ: إِنَّهُ كَالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ بَيْنَ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَرَى إِنْسَانًا يَعْدُو إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِنَّ طَبْعَهُ يَحْمِلُهُ على الاحتراز عنه وَالتَّأَهُّبِ لِدَفْعِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ طَبْعَهُ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ الشَّرُّ، وَإِلَّا لَمَا أَوْجَبَتْ فِطْرَةُ الْعَقْلِ التَّأَهُّبَ لِدَفْعِ شَرِّ ذَلِكَ السَّاعِي إِلَيْهِ، بَلْ قَالُوا: هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ عَدَا إِلَيْهِ حَيَوَانٌ آخَرُ فَرَّ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ الْأَوَّلُ وَاحْتَرَزَ مِنْهُ، فَلَوْ تَقَرَّرَ فِي طَبْعِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْوَاصِلِ هُوَ الْخَيْرَ لَوَجَبَ أَنْ يَقِفَ، لِأَنَّ أَصْلَ الطَّبِيعَةِ يَحْمِلُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي وِجْدَانِ الْخَيْرِ، وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي طَبْعِ الْحَيَوَانِ أَنْ يَكُونَ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ عَلَى التَّعَادُلِ وَالتَّسَاوِي، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفِرَارُ وَالْوُقُوفُ مُتَعَادِلِينَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كل حيوان نوجه إِلَيْهِ حَيَوَانٌ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْأَوَّلَ يَحْتَرِزُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ فِطْرَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَيَوَانِ هُوَ الشَّرُّ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: دَفْعُ الشَّرِّ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ الْخَيْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أن دفع الشر يقتضي إِبْقَاءَ الْأَصْلِ أَهَمُّ مِنْ تَحْصِيلِ الزَّائِدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِيصَالَ الْخَيْرِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، أَمَّا كَفُّ الشَّرِّ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ دَاخِلٌ فِي الْوُسْعِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِعْلٌ وَالثَّانِيَ تَرْكٌ، وَفِعْلُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، أَمَّا تَرْكُ/ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مُمْكِنٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ دَفْعُ الشَّرِّ فَقَدْ حَصَلَ الشَّرُّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حُصُولَ الْأَلَمِ وَالْحُزْنِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ أَيْضًا إِيصَالُ الْخَيْرِ بَقِيَ الْإِنْسَانُ لَا فِي الْخَيْرِ وَلَا فِي الشَّرِّ، بَلْ عَلَى السَّلَامَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَتَحَمُّلُ هَذِهِ الْحَالَةِ سَهْلٌ. فَثَبَتَ أَنَّ دَفْعَ الشَّرِّ أَهَمُّ مِنْ إِيصَالِ الْخَيْرِ، وَثَبَتَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ وَالْمِحَنِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَيَوَانَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَمُوجَبِ الْفِطْرَةِ مَنْشَأٌ لِلشُّرُورِ، وَإِذَا وَصَلَ إِنْسَانٌ إِلَى إِنْسَانٍ كَانَ أَهَمُّ الْمُهِمَّاتِ أَنْ يُعَرِّفَهُ أَنَّهُ مِنْهُ فِي السَّلَامَةِ وَالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ عَلَى أَنْ يَقَعَ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِذِكْرِ السَّلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» وَمِنْ لَطَائِفِ قَوْلِنَا «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي إِيقَاعَ السَّلَامِ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَقْلِ، وَبِحَسَبِ الشَّرْعِ. أَمَّا بِحَسَبِ الشَّرْعِ فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْ جَمْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ وَيُرَاقِبُونَ أَمْرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: ١٠، ١١] وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَبَعْضُهَا أَرْوَاحٌ خَيِّرَةٌ عَاقِلَةٌ، وَبَعْضُهَا كَدِرَةٌ خَبِيثَةٌ، وَبَعْضُهَا شَهْوَانِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا غَضَبِيَّةٌ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ السُّفْلِيَّةِ رُوحٌ عُلْوِيٌّ قَوِيٌّ يَكُونُ كَالْأَبِ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الرُّوحِ الْعُلْوِيِّ كَالْأَبْنَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبِ، وَذَلِكَ الرُّوحُ الْعُلْوِيُّ هُوَ الَّذِي يَخُصُّهَا بِالْإِلْهَامَاتِ، تَارَةً فِي الْيَقَظَةِ، وَتَارَةً فِي النَّوْمِ. وَأَيْضًا الْأَرْوَاحُ الْمُفَارِقَةُ عَنْ أَبْدَانِهَا الْمُشَاكِلَةُ لِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ فِي الصِّفَاتِ وَالطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ. يَحْصُلُ لَهَا نَوْعُ تَعَلُّقٍ بِهَذَا الْبَدَنِ بِسَبَبِ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُجَانَسَةِ، وَتَصِيرُ كَالْمُعَاوِنَةِ لِهَذِهِ الرُّوحِ عَلَى أَعْمَالِهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا السِّرَّ فَالْإِنْسَانُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَصْحُوبًا بِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ الْمُجَانِسَةِ لَهُ، فَقَوْلُهُ: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» إِشَارَةٌ إِلَى تَسْلِيمِ هَذَا الشَّخْصِ الْمَخْصُوصِ عَلَى جَمِيعِ الْأَرْوَاحِ الْمُلَازِمَةِ الْمُصَاحِبَةِ إِيَّاهُ بِسَبَبِ الْمُصَاحَبَةِ الرُّوحَانِيَّةِ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْإِنْسَانِيَّةَ إِذَا اتَّصَفَتْ بِالْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَقَوِيَتْ وَتَجَرَّدَتْ، ثُمَّ قَوِيَ تَعَلُّقُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ انْعَكَسَ أَنْوَارُهَا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute