السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.
وَالْجَوَابُ: ذَكَرَ الْفَرَّاءُ فِيهِ قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَهُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا أَيْ ذَلِكَ الْحِفْظُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أَيْ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَحُذِفَ الِاسْمُ وَأُبْقِيَ خَبَرُهُ كَمَا يُكْتَبُ عَلَى الْكِيسِ، أَلْفَانِ وَالْمُرَادُ الَّذِي فِيهِ أَلْفَانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» مَعْنَاهَا الْبَاءُ وَالتَّقْدِيرُ: يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَبِإِعَانَتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِلْمَلَائِكَةِ وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا أَحَدًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَمِمَّا قَضَاهُ عَلَيْهِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي جَعْلِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلِينَ عَلَيْنَا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَجِّمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ لِكَوْكَبٍ عَلَى حِدَةٍ وَكَذَا/ الْقَوْلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْكَوَاكِبَ لَهَا أَرْوَاحٌ عِنْدَهُمْ، فَتِلْكَ التَّدْبِيرَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْحَقِيقَةِ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَدْبِيرِ الْقَمَرِ وَالْهِيلَاجِ وَالْكَدَخْدَا عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُنَجِّمُونَ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الطَّلْسَمَاتِ فَهَذَا الْكَلَامُ مَشْهُورٌ فِي أَلْسِنَتِهِمْ وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: أَخْبَرَنِي الطِّبَاعِيُّ التَّامُّ. وَمُرَادُهُمْ بِالطِّبَاعِيِّ التَّامِّ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ رُوحًا فَلَكِيَّةً يَتَوَلَّى إِصْلَاحَ مُهِمَّاتِهِ وَدَفْعَ بَلِيَّاتِهِ وَآفَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَأَصْحَابِ الْأَحْكَامِ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ مَجِيئُهُ مِنَ الشَّرْعِ؟ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ فِي جَوَاهِرِهَا وَطَبَائِعِهَا فَبَعْضُهَا خِيِّرَةٌ، وَبَعْضُهَا شِرِّيرَةٌ، وَبَعْضُهَا مُعَزَّةٌ، وَبَعْضُهَا مُذَلَّةٌ، وَبَعْضُهَا قَوِيَّةُ الْقَهْرِ وَالسُّلْطَانِ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفَةٌ سَخِيفَةٌ. وَكَمَا أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ كَذَلِكَ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْفَلَكِيَّةَ فِي كُلِّ بَابٍ وَكُلِّ صِفَةٍ أَقْوَى مِنَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ تَكُونُ مُتَشَارِكَةً فِي طَبِيعَةٍ خَاصَّةٍ وَصْفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، لِمَا أَنَّهَا تَكُونُ فِي تَرْبِيَةِ رُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ مُشَاكِلَةً لَهَا فِي الطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ كَأَنَّهَا أَوْلَادٌ لِذَلِكَ الرُّوحِ الْفَلَكِيِّ. وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الرُّوحُ الْفَلَكِيُّ مُعِينًا لَهَا عَلَى مُهِمَّاتِهَا وَمُرْشِدًا لَهَا إِلَى مَصَالِحِهَا وَعَاصِمًا لَهَا عَنْ صُنُوفِ الْآفَاتِ، فَهَذَا كَلَامٌ ذَكَرَهٌ مُحَقِّقُو الْفَلَاسِفَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَمْرٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْكُلِّ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ اسْتِنْكَارُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ؟ ثُمَّ فِي اخْتِصَاصِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَتَسَلُّطِهِمْ عَلَى بَنِي آدَمَ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ سِوَى الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا مِنْ قَبْلُ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَدْعُونَ إِلَى الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي، وَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ. وَالثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّا نَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ دَاعٍ قَوِيٌّ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ثُمَّ يَظْهَرُ بِالْآخِرَةِ أَنَّ وُقُوعَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي قَلْبِهِ كَانَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ مَصَالِحِهِ وَخَيْرَاتِهِ، وَقَدْ يَنْكَشِفُ أَيْضًا بِالْآخِرَةِ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِ فِي آفَةٍ أَوْ فِي مَعْصِيَةٍ، فَيَظْهَرُ أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ كَانَ مُرِيدًا لِلْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ وَإِلَى الْأَمْرِ الثَّانِي كَانَ مُرِيدًا لِلْفَسَادِ وَالْمِحْنَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَلَكُ الْهَادِي وَالثَّانِي هُوَ الشَّيْطَانُ الْمُغْوِي. الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحْصِي عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ كَانَ إِلَى الْحَذَرِ مِنَ الْمَعَاصِي أَقْرَبَ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ يَعْتَقِدُ جَلَالَةَ الْمَلَائِكَةِ وَعُلُوَّ مَرَاتِبِهِمْ فإذا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute