حَاوَلَ الْإِقْدَامَ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَهَا زَجَرَهُ الْحَيَاءُ مِنْهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا كَمَا يزجره عنها إذا حضره من يعطيه مِنَ الْبَشَرِ. وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحْصِي عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَالَ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا رَادِعًا لَهُ عَنْهَا وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَكْتُبُونَهَا كَانَ الرَّدْعُ أَكْمَلَ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي كَتَبَةِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ؟ قُلْنَا هَاهُنَا مَقَامَاتٌ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَفْسِيرَ الْكِتْبَةِ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْكِتْبَةِ. قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الْفَائِدَةُ فِي تِلْكَ الصُّحُفِ وَزْنُهَا لِيُعْرَفَ رُجْحَانُ إِحْدَى الْكِفَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ إِذَا رُجَحَتْ كِفَّةُ الطَّاعَاتِ ظَهَرَ لِلْخَلَائِقِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ بِالضِّدِّ فَبِالضِّدِّ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَبْلَ مَمَاتِهِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنَ السُّعَدَاءِ أَوْ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ فَلَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْمِيزَانِ، ثُمَّ أَجَابَ الْقَاضِي عَنْ هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ: لَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا مَا رَوَيْنَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى حُصُولِ سُرُورِهِ عِنْدَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ وَبِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فِي أَعْدَاءِ اللَّهِ.
وَالْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْكِتَابَةَ عِبَارَةٌ عَنْ نُقُوشٍ مَخْصُوصَةٍ وُضِعَتْ بِالِاصْطِلَاحِ لِتَعْرِيفِ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ فَلَوْ قَدَّرْنَا كَوْنَ تِلْكَ النُّقُوشِ دَالَّةً عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي لِأَعْيَانِهَا وَذَوَاتِهَا كَانَتْ تِلْكَ الْكِتْبَةُ أَقْوَى وَأَكْمَلَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ كَثِيرَةً مُتَوَالِيَةً حَصَلَ فِي نَفْسِهِ بِسَبَبِ تَكَرُّرِهَا مَلَكَةٌ قَوِيَّةٌ رَاسِخَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَلَكَةُ مَلَكَةً سَارَّةً بِالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ فِي السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ عَظُمَ ابْتِهَاجُهُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَلَكَةُ مَلَكَةً ضَارَّةً فِي الْأَحْوَالِ الرُّوحَانِيَّةِ عَظُمَ تَضَرُّرُهُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ التَّكْرِيرَ الْكَثِيرَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ أَثَرٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ، وَذَلِكَ الْأَثَرُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْسُوسٍ إِلَّا أَنَّهُ حَاصِلٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ لَمْحَةٌ وَلَا حَرَكَةٌ وَلَا سُكُونٌ، إِلَّا وَيَحْصُلُ مِنْهُ فِي جَوْهَرِ نَفْسِهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ السَّعَادَةِ، أَوْ آثَارِ الشَّقَاوَةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَتَبَةِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا فَسَّرْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بِالْمَلَائِكَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُرَادُ: أَنَّهُ يَسْتَوِي فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى السِّرُّ وَالْجَهْرُ، وَالْمُسْتَخْفِي بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَالسَّارِبُ بِالنَّهَارِ الْمُسْتَظْهِرُ بِالْمُعَاوِنِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهُمُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، فَمَنْ لَجَأَ إِلَى اللَّيْلِ فَلَنْ يَفُوتَ اللَّهَ أَمْرُهُ، وَمَنْ سَارَ نَهَارًا بِالْمُعَقِّبَاتِ وَهُمُ الْأَحْرَاسُ وَالْأَعْوَانُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ لَمْ يَنَجِّهِ أَحْرَاسُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُعَقِّبُ الْعَوْنُ، لِأَنَّهُ إِذَا أَبْصَرَ هَذَا ذَاكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْصِرَ ذَاكَ هَذَا، فَتَصِيرُ بَصِيرَةُ كُلِّ/ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُعَاقِبَةً لِبَصِيرَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ الْمُعَقِّبَاتُ لَا تُخَلِّصُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَمِنْ قَدَرِهِ، وَهُمْ إِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُخَلِّصُونَ مَخْدُومَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَمِنْ قَضَائِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَعْثُ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا الْخَلَاصَ مِنَ الْمَكَارِهِ عَنْ حِفْظِ اللَّهِ وَعِصْمَتِهِ وَلَا يُعَوِّلُوا فِي دَفْعِهَا عَلَى الْأَعْوَانِ وَالْأَنْصَارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute