[في قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ] المسألة الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ اللَّهُ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ هُوَ اللَّهُ وَالْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُحَقِّقِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَوْلَنَا: اللَّهُ جَارٍ مَجْرَى الِاسْمِ الْعَلَمِ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَهَبَ قَوْمٌ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَقٌّ/ وَالْحَقُّ عِنْدَنَا هُوَ الْأَوَّلُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ مَا حَصَلَ لَهُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ، فَالْأَسْوَدُ مَفْهُومُهُ شَيْءٌ مَا حَصَلَ لَهُ السَّوَادُ، وَالنَّاطِقُ مَفْهُومُهُ شَيْءٌ مَا حَصَلَ لَهُ النُّطْقُ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُنَا اللَّهُ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنْ مَعْنًى لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّهُ شَيْءٌ مَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ كُلِّيٌّ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ عَنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُنَا اللَّهُ لَفْظًا مُشْتَقًّا لَكَانَ مَفْهُومُهُ صَالِحًا لِوُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ قَوْلُنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُوجِبًا لِلتَّوْحِيدِ، لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ قَوْلُنَا اللَّهُ وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُوجِبُ التَّوْحِيدَ الْمَحْضَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَنَا اللَّهُ جَارٍ مَجْرَى الِاسْمِ الْعَلَمِ. الثَّانِي: أَنَّهُ كُلَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ سَائِرَ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ ذَكَرْنَا أَوَّلًا قَوْلَنَا اللَّهُ ثُمَّ وَصَفْنَاهُ بِسَائِرِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِنَا هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْكِسَ الْأَمْرَ فَنَقُولُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ اللَّهُ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ اسْمُ عَلَمٍ لِلَّذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ وَسَائِرُ الْأَلْفَاظِ دَالَّةٌ عَلَى الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَا سِوَى قَوْلِنَا اللَّهُ كُلُّهَا دَالَّةٌ، إِمَّا عَلَى الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، كَقَوْلِنَا: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ، أَوْ عَلَى الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ، كَقَوْلِنَا الْخَالِقُ الرَّازِقُ أَوْ عَلَى الصِّفَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ كَقَوْلِنَا: الْعَالِمُ الْقَادِرُ، أَوْ عَلَى مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا: اللَّهُ اسْمًا لِلَّذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ لَكَانَ جَمِيعُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَلْفَاظًا دَالَّةً عَلَى صِفَاتِهِ، وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ اسْمٌ مَخْصُوصٌ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ: ٦٥] وَالْمُرَادُ هَلْ تَعْلَمُ مَنِ اسْمُهُ اللَّهُ غَيْرَ اللَّهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا: اللَّهُ اسْمٌ لِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَإِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَالتَّرْتِيبُ الْحَسَنُ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَهُ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الْحَشْرِ: ٢٤] فَأَمَّا أَنْ يُعْكَسَ فَيُقَالَ: هُوَ الْخَالِقُ الْمُصَوِّرُ الْبَارِئُ اللَّهُ، فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الَّذِينَ قَرَءُوا: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ بِالرَّفْعِ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا قَوْلَهُ: اللَّهُ مُبْتَدَأً وَيَجْعَلُوا مَا بَعْدَهُ خَبَرًا عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الصَّحِيحُ، فَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا: اللَّهِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ فَهُوَ مُشْكِلٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّرْتِيبَ الْحَسَنَ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ الْخَالِقُ. وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: الْخَالِقُ اللَّهُ فَهَذَا لَا يَحْسُنُ، وَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْجَوَابِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الْقِرَاءَةُ بِالْخَفْضِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: صِرَاطِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي له ما في السموات. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَذْكُرَ الصِّفَةَ أَوَّلًا ثُمَّ يَذْكُرَ الِاسْمَ ثُمَّ يَذْكُرَ الصِّفَةَ مَرَّةً أُخْرَى كَمَا يُقَالُ: مَرَرْتُ بِالْإِمَامِ الْأَجَلِّ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهِ وَهُوَ بِعَيْنِهِ نَظِيرُ قَوْلِهِ: صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الصِّرَاطَ إِنَّمَا يَكُونُ مَمْدُوحًا مَحْمُودًا إِذَا كَانَ صِرَاطًا لِلْعَالِمِ الْقَادِرِ الْغَنِيِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَتِ/ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَزِيزَ مَنْ هُوَ؟ فَعَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِزَالَةً لِتِلْكَ الشُّبْهَةِ. الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اللَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ لِلْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَتَحْقِيقُ هَذَا الْقَوْلِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. الرَّابِعُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ قَوْلَنَا اللَّهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ مُشْتَقٌّ إِلَّا أَنَّهُ بِالْعُرْفِ صَارَ جَارِيًا مَجْرَى الِاسْمِ الْعَلَمِ فَحَيْثُ يُبْدَأُ بِذِكْرِهِ وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ سَائِرُ الصِّفَاتِ فَذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute