لِأَجْلِ أَنَّهُ جُعِلَ اسْمَ عَلَمٍ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَيْثُ جُعِلَ وَصْفًا لِلْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، فَذَاكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى كَوْنِهِ لَفْظًا مُشْتَقًّا فَلَا جَرَمَ بَقِيَ صِفَةً. الْخَامِسُ: أَنَّ الْكُفَّارَ رُبَّمَا وَصَفُوا الْوَثَنَ بِكَوْنِهِ عَزِيزًا حَمِيدًا فَلَمَّا قَالَ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بَقِيَ فِي خَاطِرِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْعَزِيزُ الْحَمِيدُ هُوَ الْوَثَنَ، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَقَالَ: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيِ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هُوَ الله الذي له ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا سَمَاكَ وَعَلَاكَ فَهُوَ سَمَاءٌ، فَلَوْ حَصَلَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى فِي جِهَةِ فَوْقُ، لَكَانَ حَاصِلًا فِي السَّمَاءِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا في السموات فَهُوَ مِلْكُهُ، فَلَزِمَ كَوْنُهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُصُولِ فِي جِهَةِ فَوْقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ قَالَ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ حاصلة في السموات وَالْأَرْضِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَهُ بِمَعْنَى كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُ، وَالْمِلْكُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهَا مَقْدُورَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَقْدُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ وُقُوعُهَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا لَكَانَ الْعَبْدُ قَدْ مَنَعَ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ إِيقَاعِ مَقْدُورِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يُفِيدُ الْحَصْرَ والمعنى أن ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا حَاكِمَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ عَطَفَ عَلَى الْكُفَّارِ بِالْوَعِيدِ فَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هو المالك للسموات وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا فِيهِمَا إِلَى عِبَادَةِ مَا لَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَيُخْلَقُ وَلَا يَخْلُقُ، وَلَا إِدْرَاكَ لَهَا وَلَا فِعْلَ، فَالْوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا خُصَّ هَؤُلَاءِ بِالْوَيْلِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يُوَلْوِلُونَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ وَيَصِيحُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَاهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفُرْقَانِ: ١٣] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى صِفَةَ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِالْوَيْلِ الَّذِي/ يُفِيدُ أَعْظَمَ الْعَذَابِ وَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ:
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ «الَّذِينَ» صِفَةَ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً وَجَعَلْتَ الْخَبَرَ قَوْلَهُ: أُولئِكَ وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ عَلَى الذَّمِّ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الِاسْتِحْبَابُ طَلَبُ مُحِبَّةِ الشَّيْءِ، وَأَقُولُ إِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُحِبُّ الشَّيْءَ وَلَكِنَّهُ لَا يُحِبُّ كَوْنَهُ مُحِبًّا لِذَلِكَ الشَّيْءِ، مِثْلَ مَنْ يَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَى الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ وَلَكِنَّهُ يَكْرَهُ كَوْنَهُ مُحِبًّا لَهُمَا، أَمَّا إِذَا أَحَبَّ الشَّيْءَ وَطَلَبَ كَوْنَهُ مُحِبًّا لَهُ، وَأَحَبَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ فَهَذَا هُوَ نِهَايَةُ الْمَحَبَّةِ فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ فِي نِهَايَةِ الْمَحَبَّةِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ غَافِلًا عَنِ الْحَيَاةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَعَنْ مَعَايِبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي نِهَايَةِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ مَوْصُوفَةٌ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُيُوبِ. فَأَحَدُهَا: أَنَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ انْفَتَحَتْ أَبْوَابُ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَالْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْمَخَاوِفِ وَالْأَحْزَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا حَاصِلَ لَهَا إِلَّا دَفْعُ الْآلَامِ، بِخِلَافِ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةِ فَإِنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا لَذَّاتٌ وَسَعَادَاتٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ سَعَادَاتِ هَذِهِ الْحَيَاةِ مُنَغَّصَةٌ بسبب الانقطاع
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute