فِي الْمَاهِيَّةِ وَإِنْ تَغَايَرَ بِالْعَدَدِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ هَذَا هُوَ ذَاكَ أَيْ بِحَسَبِ الْمَاهِيَّةِ فَإِنَّ الْوَحْدَةَ النَّوْعِيَّةَ لَا تُنَافِيهَا الْكَثْرَةُ بِالشَّخْصِ وَلِذَلِكَ إِذَا اشْتَدَّتْ مُشَابَهَةُ الِابْنِ بِالْأَبِ قَالُوا إنه الأب. السؤال الثالث: [فَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَهُوَ مِنْ أَرْزَاقِ الدُّنْيَا، أَمْ من أرزاق الجنة؟] الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ شَبَّهُوا رِزْقَهُمُ الَّذِي يَأْتِيهِمْ فِي الْجَنَّةِ بِرِزْقٍ آخَرَ جَاءَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَهُوَ مِنْ أَرْزَاقِ الدُّنْيَا، أَمْ مِنْ أَرْزَاقِ الْجَنَّةِ؟
وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ أَرْزَاقِ الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِالْمَأْلُوفِ آنَسُ وَإِلَى الْمَعْهُودِ أَمْيَلُ، فَإِذَا رَأَى مَا لَمْ يَأْلَفْهُ نَفَرَ عَنْهُ طَبْعُهُ ثُمَّ إِذَا ظَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِ مَا سَلَفَ لَهُ بِهِ عَهْدٌ ثُمَّ وَجَدَهُ أَشْرَفَ مِمَّا أَلِفَهُ أَوَّلًا عَظُمَ ابتهاجه وفرحه به، فأهل الجنة إذ أَبْصَرُوا الرُّمَّانَةَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَبْصَرُوهَا فِي الْآخِرَةِ وَوَجَدُوا رُمَّانَةَ الْجَنَّةِ أَطْيَبَ وَأَشْرَفَ مِنْ رُمَّانَةِ الدُّنْيَا كَانَ فَرَحُهُمْ بِهَا أَشَدَّ مِنْ فَرَحِهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا شَاهَدُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَرَّاتِ فَيَتَنَاوَلُ الْمَرَّةَ الْأُولَى فَلَهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مِنْ أَرْزَاقِ الْجَنَّةِ شَيْءٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ، وَلَا يَكُونُ قَبْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى شَيْءٌ مِنْ أَرْزَاقِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُشَبَّهَ ذَلِكَ بِهِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَرْزَاقِ الدُّنْيَا، الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ رِزْقُ الْجَنَّةِ أَيْضًا وَالْمُرَادُ تَشَابُهُ أَرْزَاقِهِمْ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا حَصَلَتِ الْمُشَابَهَةُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ تَسَاوِي ثَوَابِهِمْ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ فِي الْقَدْرِ وَالدَّرَجَةِ حَتَّى لَا يَزِيدَ وَلَا يَنْقُصَ. الثَّانِي: الْمُرَادُ تَشَابُهُهَا فِي الْمَنْظَرِ فَيَكُونُ الثَّانِي كَأَنَّهُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ثُمَّ هَؤُلَاءِ مُخْتَلِفُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الِاشْتِبَاهُ كَمَا يَقَعُ فِي الْمَنْظَرِ يَقَعُ فِي الْمَطْعَمِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا الْتَذَّ بِشَيْءٍ وَأُعْجِبَ بِهِ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْسُهُ إِلَّا بِمِثْلِهِ، فَإِذَا جَاءَ مَا يُشْبِهُ الْأَوَّلَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ كَانَ ذَلِكَ نِهَايَةَ اللَّذَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ الِاشْتِبَاهُ فِي اللَّوْنِ لَكِنَّهَا تَكُونُ مُخْتَلِفَةً فِي الطَّعْمِ، قَالَ الْحَسَنُ يُؤْتَى أَحَدُهُمْ بِالصَّحْفَةِ فَيَأْكُلُ مِنْهَا ثُمَّ يُؤْتَى بِالْأُخْرَى فَيَقُولُ هَذَا الَّذِي أُتِينَا بِهِ مِنْ قَبْلُ، فَيَقُولُ الْمَلَكُ كُلْ فَاللَّوْنُ وَاحِدٌ وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ عَلَى لِسَانِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ لَيْسَ إِلَّا فِي مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى: وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةِ أَفْعَالِهِ مِنَ الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات لأرواح وعالم السموات وَبِالْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ رُوحُ الْإِنْسَانِ/ كَالْمِرْآةِ الْمُحَاذِيَةِ لِعَالَمِ الْقُدُسِ ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَعَارِفَ تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَحْصُلُ بِهَا كَمَالُ الِالْتِذَاذِ وَالِابْتِهَاجِ، لِمَا أَنَّ الْعَلَائِقَ الْبَدَنِيَّةَ تَعُوقُ عَنْ ظُهُورِ تِلْكَ السَّعَادَاتِ وَاللَّذَّاتِ، فَإِذَا زَالَ هَذَا الْعَائِقُ حَصَلَتِ السَّعَادَةُ الْعَظِيمَةُ وَالْغِبْطَةُ الْكُبْرَى، فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ سَعَادَةٍ رُوحَانِيَّةٍ يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يَقُولُ هَذِهِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً لِي حِينَ كُنْتُ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ الْحَاصِلَةَ فِي الْآخِرَةِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهَا فِي الدُّنْيَا مَا أَفَادَتِ اللَّذَّةَ وَالْبَهْجَةَ وَالسُّرُورَ وَفِي الْآخِرَةِ أَفَادَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِزَوَالِ الْعَائِقِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ففيه سؤالان: السؤال الأول: ألا م يرجح الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
وَأُتُوا بِهِ؟ الْجَوَابُ: إِنْ قُلْنَا الْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ رِزْقُ الدُّنْيَا فَإِلَى الشَّيْءِ الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَعْنِي أُتُوا بِذَلِكَ النَّوْعِ مُتَشَابِهًا يُشْبِهُ الْحَاصِلُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ مَا كَانَ حَاصِلًا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ قُلْنَا الْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ رِزْقُ الْجَنَّةِ أَيْضًا، فَإِلَى الشَّيْءِ الْمَرْزُوقِ فِي الْجَنَّةِ، يَعْنِي أُتُوا بِذَلِكَ النَّوْعِ فِي الْجَنَّةِ بِحَيْثُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا. السُّؤَالُ الثَّانِي:
كَيْفَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ادِّعَاءَ تَشَابُهِ الْأَرْزَاقِ فِي قَوْلِهِ: قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ تَعَالَى صَدَّقَهُمْ فِي تِلْكَ الدَّعْوَةِ بِقَوْلِهِ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ فَالْمُرَادُ طَهَارَةُ أَبْدَانِهِنَّ مِنَ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَجَمِيعِ الْأَقْذَارِ وَطَهَارَةُ أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ جَمِيعِ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الْكُلِّ لِاشْتِرَاكِ الْقِسْمَيْنِ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، قَالَ أَهْلُ الْإِشَارَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّنَبُّهِ لِمَسَائِلَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute