للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ، فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَعِنْدَ الْخَوَارِجِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [الْحُجُرَاتِ: ١١] وَقَالَ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ [التَّوْبَةِ: ١٧] وَقَالَ: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [الْحُجُرَاتِ: ٧] وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمِيثَاقِ حُجَجُهُ الْقَائِمَةُ عَلَى عِبَادِهِ الدَّالَّةُ لَهُمْ عَلَى صِحَّةِ تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِيثَاقًا وَعَهْدًا عَلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّوْحِيدِ إِذَا كَانَ يَلْزَمُ بِهَذِهِ الْحُجَجِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّمَسُّكِ بِالتَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ قَوْلُهُ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] ، وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فَاطِرٍ: ٤٢] فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ وَصَفَهُمْ بِنَقْضِ عَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ، والتأويل الأول يمكن فيه العموم فيه كُلِّ مَنْ ضَلَّ وَكَفَرَ، وَالثَّانِي: لَا يُمْكِنُ إِلَّا فِيمَنِ اخْتَصَّ بِهَذَا الْقَسَمِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ رُجْحَانُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهَا، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ التَّخْصِيصُ، الثَّانِي: أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُمُ الذَّمُّ لِأَنَّهُمْ نَقَضُوا عَهْدًا أَبْرَمَهُ اللَّهُ وَأَحْكَمَهُ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي كَرَّرَهَا عَلَيْهِمْ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ وَأَوْضَحَهَا وَأَزَالَ التَّلْبِيسَ عَنْهَا، وَلِمَا أَوْدَعَ فِي الْعُقُولِ مِنْ دَلَائِلِهَا وَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ مُؤَكِّدًا لَهَا: وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي/ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُمُ الذَّمُّ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَرَكُوا شَيْئًا هُمْ بِأَنْفُسِهِمُ الْتَزَمُوهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَرْتِيبَ الذَّمِّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى، وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَمْرَهُ وَأَمْرَ أُمَّتِهِ فَنَقَضُوا ذَلِكَ وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته. ورابعاً: قَالَ بَعْضُهُمْ، إِنَّهُ عَنَى بِهِ مِيثَاقًا أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ وَهُمْ عَلَى صُورَةِ الذَّرِّ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ هَذَا سَاقِطٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْتَجُّ عَلَى الْعِبَادِ بِعَهْدٍ وَمِيثَاقٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ كَمَا لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا ذَهَبَ عِلْمُهُ عَنْ قَلْبِهِمْ بِالسَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَعِيبَهُمْ بِذَلِكَ؟ وَخَامِسُهَا: عَهْدُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ ثَلَاثَةُ عُهُودٍ. الْعَهْدُ الْأَوَّلُ: الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] وَعَهْدٌ خَصَّ بِهِ النَّبِيِّينَ أَنْ يُبَلِّغُوا الرِّسَالَةَ وَيُقِيمُوا الدِّينَ وَلَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ [الْأَحْزَابِ: ٧] وَعَهْدٌ خَصَّ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٧] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الضَّمِيرُ فِي مِيثَاقِهِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ مَا وَثَّقُوا بِهِ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ قَبُولِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَوْثِيقِهِ كَمَا أَنَّ الْمِيعَادَ وَالْمِيلَادَ بِمَعْنَى الْوَعْدِ وَالْوِلَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ مَا وَثَّقَ بِهِ عَهْدَهُ مِنْ آيَاتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فَذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَرَادَ بِهِ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ وَحُقُوقَ الْقَرَابَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [مُحَمَّدٍ: ٢٢] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ قَطَعُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ أَنْ يَصِلُوا حبلهم بحبل