الْأَزْهَرِيُّ: غَسَقُ اللَّيْلِ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ عِنْدَ تَرَاكُمِ الظُّلْمَةِ وَاشْتِدَادِهَا، يُقَالُ: غَسَقَتِ الْعَيْنُ إِذَا امْتَلَأَتْ دَمْعًا، وَغَسَقَتِ الْجِرَاحَةُ إِذَا امْتَلَأَتْ دَمًا، قَالَ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْغَسَقُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى دَخَلَتِ الصَّلَوَاتُ الْأَرْبَعُ فِيهِ وَهِيَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَلَوْ حَمَلْنَا الْغَسَقَ عَلَى ظُهُورِ أَوَّلِ الظُّلْمَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا الظَّهْرُ وَالْمَغْرِبُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِحْثٌ شَرِيفٌ فَإِنْ فَسَّرْنَا الْغَسَقَ بِظُهُورِ أَوَّلِ الظُّلْمَةِ كَانَ الْغَسَقُ عِبَارَةٌ عَنْ أَوَّلِ الْمَغْرِبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ وَقْتَ الزَّوَالِ وَوَقْتَ أَوَّلِ الْمَغْرِبِ وَوَقْتَ الْفَجْرِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الزَّوَالُ وَقْتًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَيَكُونُ هَذَا الْوَقْتُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَأَنَّ يَكُونَ أَوَّلُ الْمَغْرِبِ وَقْتًا لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَيَكُونُ هَذَا الْوَقْتُ مُشْتَرِكًا أَيْضًا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مُطْلَقًا إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ في الحضر من غير عذر ولا يَجُوزُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ جَائِزًا بِعُذْرِ السَّفَرِ وَعُذْرِ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ، أَمَّا إِنْ فَسَّرْنَا الْغَسَقَ بِالظُّلْمَةِ الْمُتَرَاكِمَةِ فَنَقُولُ الظُّلْمَةُ الْمُتَرَاكِمَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ وَكَلِمَةُ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إِلَى غَايَةٍ يَكُونُ مَشْرُوعًا قَبْلَ حُصُولِ تِلْكَ الْغَايَةِ فَوَجَبَ جَوَازُ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا تَجِبُ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَانْتِصَابُهُ بِالْعَطْفِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: أَقِمِ الصَّلاةَ وَالتَّقْدِيرُ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ وَفِيهِ فَوَائِدُ. الْأُولَى: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقِرَاءَةِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْقُرْآنَ إِلَى الْفَجْرِ وَالتَّقْدِيرُ أَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْقِرَاءَةُ بِحُصُولِ الفجر وهي أَوَّلِ طُلُوعِ الصُّبْحِ قَدْ حَصَلَ الْفَجْرُ لِأَنَّ الْفَجْرَ سُمِّي فَجْرًا لِانْفِجَارِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ عَنْ نُورِ الصَّبَاحِ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَمُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ وُجُوبُ إِقَامَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِهِ إِلَّا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ غَيْرُ حَاصِلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى النَّدْبُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِبَارَةٌ عَنْ رُجْحَانِ مَانِعٍ مِنَ التَّرْكِ فَإِذَا مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ تَحْقُّقِ الْوُجُوبِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ الْمَنْعُ مِنَ التَّرْكِ وَأَنْ يَبْقَى أَصْلُ الرُّجْحَانِ حَتَّى تُنْقَلَ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ إِقَامَةَ الْفَجْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ التَّغْلِيسَ أَفْضَلُ مِنَ التَّنْوِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْفُقَهَاءَ بَيَّنُوا أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَطْوَلَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ الْحَثُّ عَلَى أَنَّ تَطْوِيلَ الْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ مَطْلُوبٌ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ/ عَلَى كَوْنِهِ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ وَصَفَ قُرْآنَ الْفَجْرِ بِكَوْنِهِ مَشْهُودًا. قَالَ الْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةَ النَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ خَلْفَ الْإِمَامِ تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ وَقَبْلَ أَنْ تَعْرُجَ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صِلَاتِهِ عَرَجَتْ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَكَثَتْ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ ثُمَّ إِنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ إِذَا صَعَدَتْ قَالَتْ: يَا رَبِّ إِنَّا تَرَكْنَا عِبَادَكَ يُصَلُّونَ لَكَ وَتَقُولُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ رَبَّنَا أَتَيْنَا عِبَادَكَ وَهُمْ يُصْلُونَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ.
وَأَقُولُ هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ التَّغْلِيسَ أَفْضَلُ مِنَ التَّنْوِيرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا شَرَعَ فِيهَا مِنْ أَوَّلِ الصُّبْحِ فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الظُّلْمَةُ بَاقِيَةٌ فَتَكُونُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ حَاضِرِينَ ثُمَّ إِذَا امْتَدَّتِ الصَّلَاةُ بِسَبَبِ تَرْتِيلِ الْقِرَاءَةِ وَتَكْثِيرِهَا زَالَتِ الظُّلْمَةُ وَظَهَرَ الضَّوْءُ وَحَضَرَتْ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَحْضُرُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ أَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ التَّنْوِيرِ فَهُنَاكَ مَا بَقِيَتْ الظُّلْمَةُ فَلَمْ يَبْقَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحَدٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ فَلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute