للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَحْصُلُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ مَشْهُوداً دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّغْلِيسَ أَفْضَلُ وَعِنْدِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ مَشْهُوداً احْتِمَالٌ آخَرُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْحَوَادِثُ الْحَادِثَةُ أَعْظَمَ وَأَكْمَلَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْمَلَ فَالْإِنْسَانُ إِذَا شَرَعَ فِي أَدَاءِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَتِ الظُّلْمَةُ الْقَوِيَّةُ بَاقِيَةً فِي الْعَالَمِ، فَإِذَا امْتَدَّتِ الْقِرَاءَةُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْوَقْتِ يَنْقَلِبُ الْعَالَمُ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى الضَّوْءِ وَالظُّلْمَةُ مُنَاسِبَةٌ لِلْمَوْتِ وَالْعَدَمِ، وَالضَّوْءُ مُنَاسِبٌ لِلْحَيَاةِ وَالْوُجُودِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِنْسَانُ لَمَّا قَامَ مِنْ مَنَامِهِ فَكَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَمِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُشَاهِدُ فِي أَثْنَاءِ صِلَاتِهِ انْقِلَابَ كُلِّيَّةِ هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى الضَّوْءِ وَمِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَمِنَ السُّكُونِ إِلَى الْحَرَكَةِ وَمِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَهَذِهِ الْحَالَةُ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ تَشْهَدُ الْعُقُولُ وَالْأَرْوَاحُ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا التَّقْلِيبِ وَالتَّحْوِيلِ وَالتَّبْدِيلِ إِلَّا الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ بِالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْقُوَّةِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ وَحِينَئِذٍ يَسْتَنِيرُ الْعَقْلُ بِنُورِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَيَنْفَتِحُ عَلَى الْعَقْلِ وَالرُّوحِ أَبْوَابُ الْمُكَاشَفَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فَتَصِيرُ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مَشْهُودًا عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْمُكَاشَفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ وَلِذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ وَطَبْعٌ مُسْتَقِيمٌ إِذَا قَامَ مِنْ مَنَامِهِ وَأَدَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَاعْتَبَرَ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْعَالَمِ مِنَ الظُّلْمَةِ الْحَاصِلَةِ إِلَى النُّورِ وَمِنَ السُّكُونِ إِلَى الْحَرَكَةِ فَإِنَّهُ يَجِدُ فِي قَلْبِهِ رَوْحًا وَرَاحَةً وَمَزِيدًا فِي نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ أَدَاءِ صَلَاةِ الْفَجْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيسِ فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَفِي الْآيَةِ احْتِمَالٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً التَّرْغِيبَ فِي أَنْ تُؤَدَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى كَوْنُهُ مَشْهُودًا بِالْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ وَمَزِيدُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ تَأْثِيرَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي تَصْفِيَةِ الْقَلْبِ وَفِي تَنْوِيرِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَإِذَا حَضَرَ جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسْجِدِ/ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ اسْتَنَارَ قَلْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ كَأَنَّهُ يَنْعَكِسُ نُورُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنُورُ طَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى قَلْبِ الْآخَرِ فَتَصِيرُ أَرْوَاحُهُمْ كَالْمَرَايَا الْمُشْرِقَةِ الْمُتَقَابِلَةِ إِذَا وَقَعَتْ عَلَيْهَا أَنْوَارُ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يَنْعَكِسُ النُّورُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَايَا إِلَى الْأُخْرَى فَكَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ وَأَدَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِالْجَمَاعَةِ وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ فُسْحَةً وَنُورًا وَرَاحَةً. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِي كَوْنِهِ مَشْهُودًا هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا نَامَ طُولَ اللَّيْلِ فَصَارَ كَالْغَافِلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَنْ مُرَاقَبَةِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا فَزَالَتْ صُورَةُ الْحَوَادِثِ الْجُسْمَانِيَّةِ عَنْ لَوْحِ خَيَالِهِ وَفِكْرِهِ وَعَقْلِهِ وَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْوَاحُ كَأَلْوَاحٍ سُطِّرَتْ فِيهَا نُقُوشٌ فَاسِدَةٌ ثُمَّ غُسِلَتْ وَأُزِيلَتْ تِلْكَ النُّقُوشُ عَنْهَا، فَفِي أَوَّلِ وَقْتِ الْقِيَامِ مِنَ الْمَنَامِ صَارَتْ أَلْوَاحُ عَقْلِهِ وَفِكْرِهِ وَخَيَالِهِ مُطَهَّرَةً عَنِ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ الْبَاطِلَةِ. فَإِذَا تَسَارَعَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِرَاءَةِ الْكَلَمَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَنْزِيهِهِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَقَشَ فِي لَوْحِ عَقْلِهِ وَفِكْرِهِ وَخَيَالِهِ هَذِهِ النُّقُوشُ الطَّاهِرَةُ الْمُقَدَّسَةُ، ثُمَّ إِنَّ حُصُولَ هَذِهِ النُّقُوشِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْكَامِ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ، وَهِيَ النُّقُوشُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَرَشَّحُ الْمَيْلُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَيَضْعُفُ الْمَيْلُ إِلَى الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا شَرَعَ الْإِنْسَانُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَوَّلِ قِيَامِهِ مِنَ النَّوْمِ عِنْدَ التَّغْلِيسِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ وَقَعُوا فِي أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَهِيَ حُبُّ الدُّنْيَا وَالْحِرْصُ وَالْحَسَدُ

وَالتَّفَاخُرُ وَالتَّكَاثُرُ وَهَذِهِ الدُّنْيَا مِثْلُ دَارِ الْمَرْضَى إِذَا كَانَتْ مَمْلُوءَةً مِنَ الْمَرْضَى وَالْأَنْبِيَاءُ

<<  <  ج: ص:  >  >>