للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنَ الصُّوَرِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِذَا قَبِلَتْ صُورَةً وَاحِدَةً صَارَ قَبُولُهَا لِلصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَسْهَلَ، ثُمَّ إِنَّ النَّفْسَ لَا تَزَالُ تَقْبَلُ صُورَةً بَعْدَ صُورَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَضْعُفَ الْبَتَّةَ بَلْ كُلَّمَا كَانَ قَبُولُهَا لِلصُّوَرِ أَكْثَرَ صَارَ قَبُولُهَا لِلصُّوَرِ الْآتِيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَسْهَلَ وَأَسْرَعَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ يَزْدَادُ الْإِنْسَانُ فَهْمًا وَإِدْرَاكًا كُلَّمَا ازْدَادَ تَخَرُّجًا وَارْتِبَاطًا فِي الْعُلُومِ فَثَبَتَ أَنَّ قَبُولَ النَّفْسِ للصورة الْعَقْلِيَّةِ عَلَى خِلَافِ قَبُولِ الْجِسْمِ لِلصُّورَةِ وَذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْأَفْكَارِ الدَّقِيقَةِ لَهَا أَثَرٌ فِي النَّفْسِ وَأَثَرٌ فِي الْبَدَنِ، أَمَّا أَثَرُهَا فِي النَّفْسِ فَهُوَ تَأْثِيرُهَا فِي إِخْرَاجِ النَّفْسِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ فِي التَّعَقُّلَاتِ وَالْإِدْرَاكَاتِ وَكُلَّمَا كَانَتِ الْأَفْكَارُ أَكْثَرَ كَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَكْمَلَ وَذَلِكَ غَايَةُ كَمَالِهَا وَنِهَايَةُ شَرَفِهَا وَجَلَالَتِهَا، وَأَمَّا أَثَرُهَا فِي الْبَدَنِ فَهُوَ أَنَّهَا تُوجِبُ اسْتِيلَاءَ الْيُبْسِ عَلَى الْبَدَنِ وَاسْتِيلَاءَ الذُّبُولِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ لَوِ اسْتَمَرَّتْ لَانْتَقَلَتْ إِلَى الْمَالِيخُولِيَا وَسَوْقِ الْمَوْتِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَفْكَارَ تُوجِبُ حَيَاةَ النَّفْسِ وَشَرَفَهَا وَتُوجِبُ نُقْصَانَ الْبَدَنِ وَمَوْتِهِ فَلَوْ كَانَتِ النَّفْسُ هِيَ الْبَدَنَ لَصَارَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ سَبَبًا لِكَمَالِهِ وَنُقْصَانِهِ مَعًا وَلِحَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ مَعًا، وَأَنَّهُ مُحَالٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّا إِذَا شَاهَدْنَا أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ ضَعِيفًا نَحِيفًا، فَإِذَا لَاحَ لَهُ نُورٌ مِنَ الْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ وَتُجْلَى لَهُ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ حَصَلَ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ وَسَلْطَنَةٌ قَوِيَّةٌ.

وَلَمْ يَعْبَأْ بِحُضُورِ أَكَابِرِ السَّلَاطِينِ وَلَمْ يُقِمْ لَهُمْ وَزْنًا وَلَوْلَا أَنَّ النَّفْسَ شَيْءٌ سِوَى الْبَدَنِ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

الرَّابِعُ: أَنَّ أَصْحَابَ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ كُلَّمَا أَمْعَنُوا فِي قَهْرِ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ وَتَجْوِيعِ الْجَسَدِ قَوِيَتْ قُوَاهُمُ الرُّوحَانِيَّةُ وَأَشْرَقَتْ أَسْرَارُهُمْ بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَكُلَّمَا أَمْعَنَ الْإِنْسَانُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ الْجَسَدَانِيَّةِ صَارَ كَالْبَهِيمَةِ وَبَقِيَ مَحْرُومًا عَنْ آثَارِ النُّطْقِ وَالْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَلَوْلَا أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ الْبَدَنِ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّا نَرَى أَنَّ النَّفْسَ تَفْعَلُ أَفَاعِيلَهَا بِآلَاتٍ بَدَنِيَّةٍ فَإِنَّهَا تُبْصِرُ بِالْعَيْنِ وَتَسْمَعُ بِالْأُذُنِ وَتَأْخُذُ بِالْيَدِ وَتَمْشِي بِالرِّجِلِ، أَمَّا إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ فَإِنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِذَاتِهَا فِي هَذَا الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ إِعَانَةِ شَيْءٍ مِنَ الْآلَاتِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُبْصِرَ شَيْئًا إِذَا أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ وَأَنْ لَا يَسْمَعَ صَوْتًا إِذَا سَدَّ أُذُنَيْهِ. كَمَا لَا يُمْكِنُهُ الْبَتَّةَ أَنْ يُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِ الْعِلْمَ بِمَا كَانَ عَالِمًا بِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ النَّفْسَ غَنِيَّةٌ بِذَاتِهَا/ فِي الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْآلَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْخَمْسَةُ أَمَارَاتٌ قَوِيَّةٌ فِي أَنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَثِيرٌ مِنْ دَلَائِلِ الْمُتَقَدِّمِينَ ذَكَرْنَاهَا فِي كُتُبِنَا الْحِكْمِيَّةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي إِثْبَاتِ أَنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ.

الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الْحَشْرِ: ١٩] وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ لَا يَنْسَى هَذَا الْهَيْكَلَ الْمُشَاهَدَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي يَنْسَاهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ فَرْطِ الْجَهْلِ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا الْبَدَنِ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الْأَنْعَامِ: ٩٣] وَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ الْبَدَنِ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَرَاتِبَ الْخِلْقَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢، ١٣] إِلَى قَوْلِهِ: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [الْمُؤْمِنُونَ: ١٤] وَلَا شَكَّ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ اخْتِلَافَاتٌ وَاقِعَةٌ فِي الْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ نَفْخَ الرُّوحِ قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٤] وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّوحِ جِنْسٌ مُغَايِرٌ لِمَا سَبَقَ ذكره من

<<  <  ج: ص:  >  >>