للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّغَيُّرَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِلْبَدَنِ فَإِنْ قَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢] وَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِ الطِّينِ قُلْنَا كَلِمَةُ مِنْ أَصْلُهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَقَوْلِكَ خَرَجْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ تَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ حَاصِلًا مِنْ هَذِهِ السُّلَالَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُسَوِّي الْمِزَاجَ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ تَخْلِيقِهِ مِنَ السُّلَالَةِ.

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: ٢٩] مَيَّزَ تَعَالَى بَيْنَ الْبَشَرِيَّةِ وَبَيْنَ نَفْخِ الرُّوحِ فَالتَّسْوِيَةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيقِ الْأَبْعَاضِ وَالْأَعْضَاءِ وَتَعْدِيلِ الْمِزَاجِ وَالْأَشْبَاحِ فَلَمَّا مَيَّزَ نَفْخَ الرُّوحِ عَنْ تَسْوِيَةِ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ أَضَافَ الرُّوحَ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: مِنْ رُوحِي دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ مَعْنًى مُغَايِرٌ لِجَوْهَرِ الْجَسَدِ.

الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشَّمْسِ: ٧، ٨] وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي وُجُودِ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِالْإِدْرَاكِ وَالتَّحْرِيكِ حَقًّا لِأَنَّ الْإِلْهَامَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِدْرَاكِ، وَأَمَّا الْفُجُورُ وَالتَّقْوَى فَهُوَ فِعْلٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَوْصُوفٌ أَيْضًا بِالْإِدْرَاكِ وَالتَّحْرِيكِ وَمَوْصُوفٌ أَيْضًا بِفِعْلِ الْفُجُورِ تَارَةً وَفِعْلِ التَّقْوَى تَارَةً أُخْرَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ جُمْلَةَ الْبَدَنِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِهَذَيْنَ الْوَصْفَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ جَوْهَرٍ آخَرَ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِكُلِّ هَذِهِ الْأُمُورِ.

الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الْإِنْسَانِ: ٢] فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ الْمُبْتَلَى بِالتَّكَالِيفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأُمُورِ الرَّبَّانِيَّةِ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَمَجْمُوعُ الْبَدَنِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ كَذَلِكَ فَالنَّفْسُ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِجُمْلَةِ الْبَدَنِ وَمُغَايِرٌ لِأَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صِفَةِ الْأَرْوَاحِ قَبْلَ تَعَلُّقِهَا بِالْأَجْسَادِ وَبَعْدَ انْفِصَالِهَا مِنَ الْأَجْسَادِ كَثِيرَةٌ وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا الْجَسَدِ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ وَيَرْوِي هَذِهِ الْأَخْبَارَ الْكَثِيرَةَ ثُمَّ يَقُولُ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ يَعْرِفُ الرُّوحَ وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الرُّوحَ لَوْ كَانَ جِسْمًا مُنْتَقِلًا مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ وَمِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ لَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْبَدَنِ فِي كَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا مِنْ أَجْسَامٍ اتَّصَفَتْ بِصِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ أُخْرَى فَإِذَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ وَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ جِسْمٌ كَانَ كَذَا ثُمَّ صَارَ كَذَا حَتَّى صَارَ رُوحًا مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ الْبَدَنِ أَنَّهُ كَانَ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذلك بل قال إنه: مِنْ أَمْرِ رَبِّي بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ له: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: ١١٧] دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَوْهَرٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ قُدْسِيٌّ مُجَرَّدٌ وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْعَارِفِينَ الْمُكَاشِفِينَ مِنْ أَصْحَابِ الرِّيَاضِيَّاتِ وَأَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ مُصِرُّونَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَازِمُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ قَالَ الْوَاسِطِيُّ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ مِنْ بَيْنِ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ فَلَوْلَا أَنَّهُ سَتَرَهَا لَسَجَدَ لَهَا كُلُّ كَافِرٍ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ تَعَلُّقَهُ الْأَوَّلَ بِالْقَلْبِ ثُمَّ بِوَاسِطَتِهِ يَصِلُ تَأْثِيرُهُ إِلَى جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ فَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣، ١٩٤] وَاحْتَجَّ الْمُنْكِرُونَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>