هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ مَعَ أَنَّا مِنْ أَنْسَابٍ شَرِيفَةٍ وَهُمْ مِنْ أَنْسَابٍ نَازِلَةٍ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ وَهُمْ فقراء، فالله تعالى ذكر هذه القصة هاهنا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا طَرِيقَةُ إِبْلِيسَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَذَّرَ عَنْهَا وَعَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهَا فِي قَوْلِهِ:
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ وَهُوَ حَسَنٌ مُعْتَبَرٌ، وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ أَمْرَ الْقِيَامَةِ وَمَا يَجْرِي عِنْدَ الْحَشْرِ وَوَضْعَ الْكِتَابِ وَكَأَنَّ الله تعالى يريد أن يذكر هاهنا أَنَّهُ يُنَادِي الْمُشْرِكِينَ وَيَقُولُ لَهُمْ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِي زَعَمْتُمْ وَكَانَ قَدْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ إِبْلِيسَ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى إِثْبَاتِ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ قِصَّتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِتْمَامًا لِذَلِكَ الْغَرَضِ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَإِنْ كَانَ تَعَالَى قَدْ كَرَّرَهَا فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ إِلَّا أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا فَائِدَةً مُجَدَّدَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَكَوْنُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ وَلَهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَبِيلَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَمَّوْنَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصَّافَّاتِ: ١٥٨] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٠٠] وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِنَّ سُمُّوا جِنًّا لِلِاسْتِتَارِ وَالْمَلَائِكَةُ كَذَلِكَ فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْجِنِّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ خَازِنَ الْجَنَّةِ وَنُسِبَ إِلَى الْجَنَّةِ كَقَوْلِهِمْ كُوفِيٌّ وَبَصْرِيٌّ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ مَنِ الْجَنَّانِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْجَنَّاتِ حَيٌّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَصُوغُونَ حِلْيَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُذْ خُلِقُوا رَوَاهُ الْقَاضِي فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالَّذِينَ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ وَهُوَ أَبُوهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَمُسِخَ وَغُيِّرَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ أَحْكَمْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَصْلُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ ذُرِّيَّةً وَنَسْلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَالْمَلَائِكَةُ لَيْسَ لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا نَسْلٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ تَنَاوَلَهُ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَأَيْضًا/ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْ كُلِّ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْصَاءِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَفِي ظَاهِرِهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَفْسُقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَيْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ مِنْ قِشْرِهَا أَيْ خَرَجَتْ، وَسُمِّيَتِ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا مِنَ الْبَابَيْنِ وَقَالَ رُؤْبَةُ:
يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرٍ غَائِرًا ... فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا
الثَّانِي: حَكَى الزَّجَّاجُ عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ فَعَصَى كَانَ سَبَبُ فِسْقِهِ هُوَ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ الْأَمْرُ السَّابِقُ لَمَا حَصَلَ الْفِسْقُ، فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى حَسُنَ أَنْ يُقَالَ: فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.
الثَّالِثُ: قَالَ قُطْرُبٌ: فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ رَدَّهُ كَقَوْلِهِ وَاسْأَلِ القرية واسأل العير قَالَ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ إِبْلِيسَ تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ وَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ لَمَّا ادَّعَى أَنَّ أَصْلَهُ أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون هُوَ أَشْرَفَ مِنْ آدَمَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِشَرَفِ نَسَبِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، إِنَّكُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ اقْتَدَيْتُمْ بِإِبْلِيسَ فِي تَكَبُّرِهِ عَلَى آدَمَ فَلَمَّا عَلِمْتُمْ أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَكَيْفَ تَقْتَدُونَ بِهِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْمَذْمُومَةِ. هَذَا هُوَ تَقْرِيرُ الْكَلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الكلام لا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute