للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَتِمُّ إِلَّا بِإِثْبَاتِ مُقَدِّمَاتٍ. فَأَوَّلُهَا: إِثْبَاتُ إِبْلِيسَ. وَثَانِيهَا: إِثْبَاتُ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ. وَثَالِثُهَا: إِثْبَاتُ عَدَاوَةٍ بَيْنَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ وَبَيْنَ أَوْلَادِ آدَمَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ اقْتَدَوْا فِيهِ بِإِبْلِيسَ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعَةِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهَا إِلَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْجَاهِلُ بِصِدْقِ النَّبِيِّ جَاهِلٌ بِهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ هَلْ عَرَفُوا كَوْنَ مُحَمَّدٍ نَبِيًّا صَادِقًا أَوْ مَا عَرَفُوا ذَلِكَ؟ فَإِنْ عَرَفُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا صَادِقًا قَبِلُوا قَوْلَهُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ فَكُلَّمَا نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلٍ انْتَهَوْا عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى قِصَّةِ إِبْلِيسَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا جَهِلُوا كُلَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا صِحَّتَهَا فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي إِيرَادِهَا عَلَيْهِمْ فَائِدَةٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا قِصَّةَ إِبْلِيسَ وَآدَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهَا وَعَلِمُوا أَنَّ إِبْلِيسَ إِنَّمَا تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ بِسَبَبِ نَسَبِهِ، فَإِذَا أَوْرَدْنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَمَّا أَظْهَرُوهُ مَعَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّرَفُّعِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْكُفْرَ وَلَا يَخْلُقُهُ فِي الْعَبْدِ، إِذْ لَوْ أَرَادَهُ وَخَلَقَهُ فِيهِ ثُمَّ عَاقَبَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ ضَرَرُ إِبْلِيسَ أَقَلَّ مِنْ ضَرَرِ الله عليهم! فَكَيْفَ يُوَبِّخُهُمْ بِقَوْلِهِ: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا!؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا ضَرَرَ الْبَتَّةَ مِنْ إِبْلِيسَ بَلِ الضَّرَرُ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ.

وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالدَّاعِي وَالْعِلْمِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ لِلْكُفَّارِ الْمُفْتَخِرِينَ بِأَنْسَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ/ أَفَتَتَّخِذُونَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ لَهُمْ إِلَى تَرْكِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النَّخْوَةُ وَإِظْهَارُ الْعَجَبِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ بِنَاءً عَلَى هَذَا الدَّاعِي فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِإِبْلِيسَ حَتَّى أَنَّ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ فِي إِظْهَارِ الْعِلْمِ وَالْمُنَاظَرَةِ التَّفَاخُرَ وَالتَّكَبُّرَ وَالتَّرَفُّعَ فَهُوَ مُقْتَدٍ بِإِبْلِيسَ وَهُوَ مَقَامٌ صَعْبٌ غَرِقَ فِيهِ أَكْثَرُ الْخَلْقِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْخَلَاصَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أَيْ بِئْسَ الْبَدَلُ مِنَ اللَّهِ إِبْلِيسُ لِمَنِ اسْتَبْدَلَهُ بِهِ فَأَطَاعَهُ بَدَلَ طَاعَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:

مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْمَعْنَى مَا أَشْهَدْتُ الذي اتخذتموهم أولياء خلق السموات وَالْأَرْضِ وَلَا أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ خَلْقَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: ٦٦] يَعْنِي مَا أَشْهَدْتُهُمْ لِأَعْتَضِدَ بِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:

وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أَيْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَهُمْ فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ بَيَانًا لِإِضْلَالِهِمْ وَقَوْلُهُ:

عَضُداً أَيْ أَعْوَانًا. وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ تَطْرُدْ مِنْ مَجْلِسِكَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ لَمْ نُؤْمِنْ بِكَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الِاقْتِرَاحِ الْفَاسِدِ وَالتَّعَنُّتِ الْبَاطِلِ مَا كَانُوا شُرَكَاءَ لِي فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا اعْتَضَدْتُ بِهِمْ فِي تَدْبِيرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ كَسَائِرِ الْخَلْقِ، فَلِمَ أَقْدَمُوا عَلَى هَذَا الِاقْتِرَاحِ الْفَاسِدِ؟ وَنَظِيرُهُ أَنَّ مَنِ اقْتَرَحَ عَلَيْكَ اقْتِرَاحَاتٍ عَظِيمَةً فَإِنَّكَ تَقُولُ لَهُ لَسْتَ بِسُلْطَانِ الْبَلَدِ وَلَا ذُرِّيَّةِ الْمَمْلَكَةِ حَتَّى نَقْبَلَ مِنْكَ هَذِهِ الِاقْتِرَاحَاتِ الْهَائِلَةَ، فَلِمَ تُقْدِمُ عَلَيْهَا وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ الْأَقْرَبُ هُوَ ذِكْرُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا

<<  <  ج: ص:  >  >>