للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ جَعَلَ طِهَارَتَهُ وَزَكَاتَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَلْطَافِ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَكانَ تَقِيًّا وَقَدْ عَرَفْتَ مَعْنَاهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْمَدَائِحِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَّقِي نَهْيَ اللَّهِ فَيَجْتَنِبُهُ وَيَتَّقِي أَمْرَهُ فَلَا يُهْمِلُهُ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا الْوَصْفِ مَنْ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ وَلَا يَهُمُّ بِمَعْصِيَةٍ وَكَانَ يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى: وَكانَ تَقِيًّا وَهَذَا حِينَ ابْتِدَاءِ تَكْلِيفِهِ قُلْنَا:

إِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ الرَّسُولَ وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِ حَيْثُ كَانَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ:

قَوْلُهُ: وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا عِبَادَةَ بَعْدَ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ تَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ:

وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] . الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً

وَالْمُرَادُ وَصْفُهُ بِالتَّوَاضُعِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الْحِجْرِ: ٨٨] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٩] وَلِأَنَّ رَأْسَ الْعِبَادَاتِ مَعْرِفَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِالذُّلِّ وَمَعْرِفَةُ رَبِّهِ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالذُّلِّ وَعَرَفَ رَبَّهُ بِالْكَمَالِ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ التَّرَفُّعُ وَالتَّجَبُّرُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا تَجَبَّرَ وَتَمَرَّدَ صَارَ مُبْعَدًا عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الدِّينِ وَقِيلَ الْجَبَّارُ هُوَ الَّذِي لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا وَهُوَ مِنَ الْعِظَمِ وَالذَّهَابِ بِنَفْسِهِ عَنْ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاءُ حَقِّ أَحَدٍ، وَقَالَ سُفْيَانُ فِي قَوْلِهِ: جَبَّاراً عَصِيًّا

إِنَّهُ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى الْغَضَبِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ [الْقِصَصِ: ١٩] وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ عَاقَبَ عَلَى غَضَبِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ جَبَّارٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٣٠] . الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ:

قَوْلُهُ: عَصِيًّا

وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَاصِي كَمَا أَنَّ الْعَلِيمَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَالِمِ. الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَسَلامٌ عَلَيْهِ

أَيْ أَمَانٌ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ وُلِدَ مِنْ أَنْ يَنَالَهُ الشَّيْطَانُ كَمَا يَنَالُ سَائِرَ بَنِي آدَمَ: وَيَوْمَ يَمُوتُ

أَيْ وَأَمَانٌ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ:

وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

أَيْ وَمِنْ عَذَابِ الْقِيَامَةِ. وَثَانِيهَا: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْخَلْقُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ يَوْمَ يُولَدُ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجًا مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا مَا شَاهَدَهُمْ قَطُّ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ عَظِيمٍ فَأَكْرَمَ اللَّهُ يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَخَصَّهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَفْطَوَيْهِ: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ

أَيْ أَوَّلَ مَا يَرَى الدُّنْيَا وَيَوْمَ/ يَمُوتُ

أَيْ أَوَّلَ يَوْمٍ يَرَى فِيهِ أَوَّلَ أَمْرِ الآخرة وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

أي أول ما يَوْمٍ يَرَى فِيهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَإِنَّمَا قَالَ: حَيًّا

تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الشُّهَدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٩] فُرُوعٌ. الْأَوَّلُ: هَذَا السَّلَامُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَدَلَالَةُ شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ لَا تَخْتَلِفُ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يُسَلِّمُونَ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي: لِيَحْيَى مَزِيَّةٌ فِي هَذَا السَّلَامِ عَلَى مَا لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصَّافَّاتِ: ٧٩] . سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: ١٠٩] لأنه قال ويَوْمَ وُلِدَ

وَلَيْسَ ذَلِكَ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الثَّالِثُ:

رُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّمَ عَلَيْكَ وَأَنَا سَلَّمْتُ عَلَى نفسي،

وهذا ليس يقوى لِأَنَّ سَلَامَ عِيسَى عَلَى نَفْسِهِ يَجْرِي مَجْرَى سَلَامِ اللَّهِ عَلَى يَحْيَى لِأَنَّ عِيسَى مَعْصُومٌ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. الرَّابِعُ: السَّلَامُ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ جَزَاءً لَهُ، وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَيْهِ يَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ فِي الْمَحْشَرِ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَوَابًا كَالْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>