للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقَوْلُ فِي فَوَائِدِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: تَعْلِيمُ آدَابِ الدُّعَاءِ وَهِيَ مِنْ جِهَاتٍ. أَحَدُهَا: قوله: نِداءً خَفِيًّا [مريم: ٣] وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الدُّعَاءِ مَا هذا حاله ويؤكد قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَافِ: ٥٥] وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مُشْعِرٌ بِالْقُوَّةِ وَالْجَلَادَةِ وَإِخْفَاءَ الصَّوْتِ مُشْعِرٌ بِالضَّعْفِ وَالِانْكِسَارِ وَعُمْدَةُ الدُّعَاءِ الِانْكِسَارُ وَالتَّبَرِّي عَنْ حَوْلِ النَّفْسِ وَقُوَّتِهَا وَالِاعْتِمَادُ عَلَى فضل الله تعالى وإحسانه. وثانيها: أن المحتسب أَنْ يَذْكُرَ فِي مُقَدِّمَةِ الدُّعَاءِ عَجْزَ النَّفْسِ وَضَعْفَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: ٤] ثُمَّ يَذْكُرُ كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: ٤] . وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ لِأَجْلِ شَيْءٍ مُتَعَلِّقٍ بِالدِّينِ لَا لِمَحْضِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [مريم: ٥] . وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِلَفْظِ يَا رَبِّ عَلَى مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: ظُهُورُ دَرَجَاتِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَمَّا زَكَرِيَّا فَأُمُورٌ: أَحَدُهَا: نِهَايَةُ تَضَرُّعِهِ فِي نَفْسِهِ وَانْقِطَاعُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْكُلِّيَّةِ. وَثَانِيهَا: إِجَابَةُ اللَّهِ تَعَالَى دُعَاءَهُ. وَثَالِثُهَا:

أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَادَاهُ وَبَشَّرَهُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ أَوْ حَصَلَ الْأَمْرَانِ مَعًا. وَرَابِعُهَا: اعْتِقَالُ لِسَانِهِ عَنِ الْكَلَامِ دُونَ التَّسْبِيحِ.

وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ طَلَبُ الْآيَاتِ لِقَوْلِهِ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ وَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ فِي نِهَايَةِ الشَّيْخُوخَةِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ الطَّبَائِعِ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: صِحَّةُ الِاسْتِدْلَالِ فِي الدِّينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: ٩] . الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا مَذْكُورًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الْإِنْسَانِ: ١] قُلْنَا: الْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنْ جَوَاهِرَ مُتَأَلِّفَةٍ قَامَتْ بِهَا أَعْرَاضٌ مَخْصُوصَةٌ وَالْجَوَاهِرُ الْمُتَأَلِّفَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِالْأَعْرَاضِ الْمَخْصُوصَةِ/ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي الْعَدَمِ إِنَّمَا الثَّابِتُ هُوَ أَعْيَانُ تِلْكَ الْجَوَاهِرِ مُفْرَدَةً غَيْرَ مُرَكَّبَةٍ وَهِيَ لَيْسَتْ بِإِنْسَانٍ فَظَهَرَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَذَكَرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلْنَعْتَبِرْ حَالَهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَنَقُولُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنِ الْوَقْتَ وَبَيَّنَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ بِقَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آلِ عِمْرَانَ: ٣٧، ٣٨] وَالْمَعْنَى أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَأَى خَرْقَ الْعَادَةِ فِي حَقِّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ طَمِعَ فِيهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَدَعَا. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ فِي آلِ عِمْرَانَ بِأَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ الْمَلَائِكَةُ لِقَوْلِهِ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٩] وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ الْأَظْهَرُ أَنَّ المنادي بقوله: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ [مريم: ٧] هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٠] فَذَكَرَ أَوَّلًا كِبَرَ نَفْسِهِ ثُمَّ عُقْرَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم: ٨] وَجَوَابُهُ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ. الرَّابِعُ: قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وقال هاهنا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ وَجَوَابُهُ أَنَّ مَا بَلَغَكَ فَقَدْ بَلَغْتَهُ. الْخَامِسُ: قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً [آل عمران: ٤١] وقال هاهنا: ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [مريم: ١٠] وَجَوَابُهُ: دَلَّتِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهنَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ مَرْيَمَ وَكَيْفِيَّةِ وِلَادَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَدَّمَ قِصَّةَ يَحْيَى عَلَى قِصَّةِ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِأَنَّ خَلْقَ الْوَلَدِ من

<<  <  ج: ص:  >  >>