للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الْأَزَلِ، قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنَ الْإِيجَادِ ثَابِتٌ لَهُ إِمَّا لِذَاتِهِ أَوْ لِأَمْرٍ يَنْتَهِي إِلَى ذَاتِهِ، وَكَيْفَ كَانَ فَيَلْزَمُ صِحَّةُ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي الْأَزَلِ فَكُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي الْمُؤَثِّرِيَّةِ فَنَحْنُ نَذْكُرُهُ فِي الْقَابِلِيَّةِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّا نُقَرِّرُ هَذِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ بِحَيْثُ تَسْقُطُ عَنْهَا هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ، فَنَقُولُ: ذَاتُهُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَافِيَةً اقْتِضَاءَ هَذَا الْحُلُولِ، أَوْ لَا تَكُونُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ اسْتَحَالَ تَوَقُّفُ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءِ عَلَى حُصُولِ شَرْطٍ فَيَعُودُ مَا قُلْنَا إِنَّهُ يَلْزَمُ إِمَّا قِدَمُ الْمَحَلِّ أَوْ حُدُوثُ الْحَالِّ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ كَوْنُهُ مُقْتَضِيًا لِذَلِكَ الْحُلُولِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى ذَاتِهِ حَادِثًا فِيهِ فَعَلَى التَّقْدِيرَاتِ كُلِّهَا يَلْزَمُ مِنْ حُدُوثِ حُلُولِهِ فِي مَحَلِّ حُدُوثِ شَيْءٍ فِيهِ لَكِنْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْحَوَادِثِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ قَابِلًا لَهَا وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِالْقُدْرَةِ فَغَيْرُ وَارِدَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى لِذَاتِهِ قَادِرٌ عَلَى الْإِيجَادِ فِي الْأَزَلِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِيجَادِ فِيمَا لَا يَزَالُ فَهَهُنَا أَيْضًا لَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ قَابِلَةً/ لِلْحَوَادِثِ لَكَانَتْ فِي الْأَزَلِ قَابِلَةً لَهَا فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْمُحَالُ الْمَذْكُورُ. هَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَلَنَا فِي إِبْطَالِ قَوْلِ النَّصَارَى وُجُوهٌ أُخَرُ. أَحَدُهَا:

أَنَّهُمْ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّ ذَاتَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ تَحِلَّ فِي نَاسُوتِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ قَالُوا الْكَلِمَةُ حَلَّتْ فِيهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَةِ الْعِلْمُ. فَنَقُولُ: الْعِلْمُ لَمَّا حَلَّ فِي عِيسَى فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ بَقِيَ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَا بَقِيَ فِيهَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ حُصُولُ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ فِي مَحِلَّيْنِ. وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ فِي ذَاتِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَيْنِهِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ هُوَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ لَذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْقَ عَالِمًا بَعْدَ حُلُولِ عِلْمِهِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَثَانِيهَا:

مُنَاظَرَةٌ جَرَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ بَعْضِ النَّصَارَى، فَقُلْتُ لَهُ هَلْ تُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ أَنْكَرْتَ لَزِمَكَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدِيمًا لِأَنَّ دَلِيلَ وُجُودِهِ هُوَ الْعَالَمُ فَإِذَا لَزِمَ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ لَزِمَ مِنْ عَدَمِ الْعَالَمِ فِي الْأَزَلِ عَدَمُ الصَّانِعِ فِي الْأَزَلِ، وَإِنْ سَلَّمْتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ، فَنَقُولُ إِذَا جَوَّزْتَ اتِّحَادَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِيسَى أَوْ حُلُولَهَا فِيهِ فَكَيْفَ عَرَفْتَ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعَالَى مَا دَخَلَتْ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو بَلْ كَيْفَ أَنَّهَا مَا حَلَّتْ فِي هَذِهِ الْهِرَّةِ وَفِي هَذَا الْكَلْبِ، فَقَالَ لِي: إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ لَا يَلِيقُ بِكَ لِأَنَّا إِنَّمَا أَثْبَتْنَا ذَلِكَ الِاتِّحَادَ أَوِ الْحُلُولَ بِنَاءً عَلَى مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ظَهَرَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَكَيْفَ نُثْبِتُ الِاتِّحَادَ أَوِ الْحُلُولَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي عَرَفْتُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّكَ مَا عَرَفْتَ أَوَّلَ الْكَلَامِ لِأَنَّكَ سَلَّمْتَ لِي أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُلُولُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فِي الْجُمْلَةِ فَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِهِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الدَّلِيلُ فِي حَقِّ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَلَكِنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ظُهُورِ هَذِهِ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَعَلَى السِّنَّوْرِ وَالْكَلْبِ عَدَمُ ذَلِكَ الْحُلُولِ، فَثَبَتَ أَنَّكَ مَهْمَا جَوَّزْتَ الْقَوْلَ بِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ لَزِمَكَ تَجْوِيزُ حُصُولِ ذَلِكَ الِاتِّحَادِ وَذَلِكَ الْحُلُولِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ بَلْ فِي حَقِّ كُلِّ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي يَسُوقُ قَائِلَهُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ الرَّكِيكِ يَكُونُ بَاطِلًا قَطْعًا، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ دَلَّ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ عَلَى مَا قُلْتَ؟ أَلَيْسَ أَنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا ثُعْبَانًا أَبْعَدُ مِنَ انْقِلَابِ الْمَيِّتِ حَيًّا فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ فَبِأَنْ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى إِلَهِيَّةِ عِيسَى أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّا نَقُولُ دَلَالَةُ أَحْوَالِ عِيسَى عَلَى الْعُبُودِيَّةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ لِأَنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْعَبِيدِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الدُّنْيَا وَالِاحْتِرَازِ عَنْ أَهْلِهَا حَتَّى قَالَتِ النَّصَارَى إِنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ وَمَنْ كَانَ فِي الضَّعْفِ هكذا فكيف

<<  <  ج: ص:  >  >>