للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلا بأس أن نذكرها هاهنا. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [الْعَلَقِ: ١- ٥] فَقِيلَ فِيهِ إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ فَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلَ حَالِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَقَةً. مَعَ أَنَّهَا أَخَسُّ الْأَشْيَاءِ وَآخِرَ حَالِهِ وَهِيَ صَيْرُورَتُهُ عَالِمًا وَهُوَ أَجَلُّ الْمَرَاتِبِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ كُنْتَ أَنْتَ فِي أَوَّلِ حَالِكَ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْخَسَاسَةِ فَصِرْتَ فِي آخِرِ حَالِكَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ الَّتِي هِيَ الْغَايَةُ فِي الشَّرَفِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ أَشْرَفَ الْمَرَاتِبِ إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَشْرَفَ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْوَصْفَ بِالْأَكْرَمِيَّةِ لِأَنَّهُ أَعْطَى الْعِلْمَ فَلَوْلَا أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ إِفَادَتُهُ أَشْرَفَ مِنْ إِفَادَةِ غَيْرِهِ: الثَّالِثُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا وُجُوهٌ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ. أَحَدُهَا: دَلَالَتُهَا عَلَى أُمَمٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ

الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَالْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَبَيَانُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: ٢٨] وَبَيَانُ أَنَّ أَهْلَ الْخَشْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْبَيِّنَةِ: ٨] إِلَى قَوْلِهِ تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا

قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ فَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُقَدِّمَتَيْ هَذِهِ/ الدَّلَالَةِ بِالْعَقْلِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْعَالِمَ بِاللَّهِ يَجِبُ أَنْ يَخْشَاهُ، فَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالشَّيْءِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ الْعِلْمَ بِالذَّاتِ لَا يَكْفِي فِي الْخَوْفِ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ. مِنْهَا: الْعِلْمُ بِالْقُدْرَةِ، لِأَنَّ الْمَلِكَ عَالِمٌ بِاطِّلَاعِ رَعِيَّتِهِ عَلَى أَفْعَالِهِ الْقَبِيحَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَخَافُهُمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهَا. وَمِنْهَا: الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا، لأن السارق من مال السلطان يعلم بقدرته، وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِسَرِقَتِهِ فَلَا يَخَافُهُ. وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ حَكِيمًا.

فَإِنَّ الْمُسَخَّرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ عَالِمٌ بِكَوْنِ السُّلْطَانِ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ عَالِمًا بِقَبَائِحِ أَفْعَالِهِ، لَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ يَرْضَى بِمَا لَا يَنْبَغِي فَلَا يَحْصُلُ الْخَوْفُ، أَمَّا لَوْ عَلِمَ اطِّلَاعَ السُّلْطَانِ عَلَى قَبَائِحِ أَفْعَالِهِ وَعَلِمَ قُدْرَتَهُ عَلَى مَنْعِهِ وَعَلِمَ أنه حكيم لا يرضى بسفاهته، صَارَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ الثَّلَاثَةُ مُوجِبَةً لِحُصُولِ الْخَوْفِ فِي قَلْبِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ خَوْفَ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا عَلِمَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، غَيْرَ رَاضٍ بِالْمُنْكَرَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْخَوْفَ سَبَبُ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا سَنَحَ لِلْعَبْدِ لَذَّةٌ عَاجِلَةٌ وَكَانَتْ تِلْكَ اللَّذَّةُ عَلَى خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ الشَّيْءِ يَكُونُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَنْفَعَةٍ وَمَضَرَّةٍ، فَصَرِيحُ الْعَقْلِ حَاكِمٌ بِتَرْجِيحِ الْجَانِبِ الرَّاجِحِ عَلَى الْجَانِبِ الْمَرْجُوحِ، فَإِذَا عَلِمَ بِنُورِ الْإِيمَانِ أَنَّ اللَّذَّةَ الْعَاجِلَةَ حَقِيرَةٌ فِي مُقَابَلَةِ الْأَلَمِ الْآجِلِ، صَارَ ذَلِكَ الْإِيمَانُ سَبَبًا لِفِرَارِهِ عَنْ تِلْكَ اللَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخَشْيَةُ، وَإِذَا صَارَ تَارِكًا لِلْمَحْظُورِ فَاعِلًا لِلْوَاجِبِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالشَّوَاهِدِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ أَنَّ