الْعَالِمَ بِاللَّهِ خَائِفٌ وَالْخَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَنَّةِ أَهْلٌ إِلَّا الْعُلَمَاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْعُلَمَاءِ. وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [الْبَيِّنَةِ: ٨] دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ وَكَوْنُهَا لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ يُنَافِي كَوْنَهَا لِغَيْرِهِمْ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَنَّةِ أَهْلٌ إِلَّا الْعُلَمَاءَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا تَخْوِيفٌ شَدِيدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْخَشْيَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، فَعِنْدَ عَدَمِ الْخَشْيَةِ يَلْزَمُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، وَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ تُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُورِثُ الْخَشْيَةَ، وَأَنَّ أَنْوَاعَ الْمُجَادَلَاتِ وَإِنْ دَقَّتْ وَغَمُضَتْ إِذَا خَلَتْ عَنْ إِفَادَةِ الْخَشْيَةِ كَانَتْ مِنَ الْعِلْمِ الْمَذْمُومِ. وَثَالِثُهَا: قُرِئَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ برفعه الْأَوَّلِ وَنَصْبِ الثَّانِي، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ جَازَتِ الْخَشْيَةُ عَلَيْهِ، لَمَا خَشِيَ الْعُلَمَاءُ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا الْجَاهِلُ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ فَأَيُّ مُبَالَاةٍ بِهِ وَأَيُّ الْتِفَاتٍ إِلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ نِهَايَةُ الْمَنْصِبِ لِلْعُلَمَاءِ وَالتَّعْظِيمِ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] . وَفِيهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى نَفَاسَةِ الْعِلْمِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَفَرْطِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، حَيْثُ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالِازْدِيَادِ مِنْهُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوِ اكْتَفَى أَحَدٌ مِنَ الْعِلْمِ لَاكْتَفَى نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَقُلْ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الْكَهْفِ: ٦٦] . الْخَامِسُ: كَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا مَا كَانَ حَتَّى إِنَّهُ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: ٣٥] ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَفْتَخِرْ بِالْمَمْلَكَةِ وَافْتَخَرَ بالعلم حيث قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: ١٦] فَافْتَخَرَ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِمَنْطِقِ الطَّيْرِ فَإِذَا حَسُنَ مِنْ سُلَيْمَانَ أَنْ يَفْتَخِرَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ فَلَأَنْ يَحْسُنَ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِمَعْرِفَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ أَحْسَنَ وَلِأَنَّهُ قَدَّمَ ذَلِكَ على قوله: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَمَالَ حَالِهِمْ قَدَّمَ الْعِلْمَ أَوَّلًا وَقَالَ: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٨] إِلَى قَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٩] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ. السَّادِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ الْهُدْهُدُ مَعَ أَنَّهُ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْقِفِ الْمُعَاتَبَةُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ [النَّمْلِ: ٢٢] فَلَوْلَا أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الْأَشْيَاءِ وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ لِلْهُدْهُدِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ يُرَى الرَّجُلُ السَّاقِطُ إِذَا تَعَلَّمَ الْعِلْمَ صَارَ نَافِذَ الْقَوْلِ عِنْدَ السَّلَاطِينِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ، السَّابِعُ:
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً»
وَفِي التَّفْضِيلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّفَكُّرَ يُوصِلُكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِبَادَةَ تُوصِلُكَ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالَّذِي يُوصِلُكَ إِلَى اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا يُوصِلُكَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّفَكُّرَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالطَّاعَةَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ، وَالْقَلْبُ أَشْرَفُ مِنَ الْجَوَارِحِ فَكَانَ عَمَلُ الْقَلْبِ أَشْرَفَ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] جَعَلَ الصَّلَاةَ وَسِيلَةً إِلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ وَالْمَقْصُودُ أَشْرَفُ مِنَ الْوَسِيلَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ. الثَّامِنُ: قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
[النِّسَاءِ: ١١٣] فَسَمَّى الْعِلْمَ عَظِيمًا وَسَمَّى الْحِكْمَةَ خَيْرًا كَثِيرًا فَالْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ وَقَالَ أَيْضًا: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: ١] فَجَعَلَ هَذِهِ النِّعْمَةَ مُقَدَّمَةً عَلَى جَمِيعِ النِّعَمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. التَّاسِعُ: أَنَّ سَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ نَاطِقَةٌ بِفَضْلِ الْعِلْمِ. أَمَّا التَّوْرَاةُ
فَقَالَ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ «عَظِّمِ الْحِكْمَةَ فَإِنِّي لَا أَجْعَلُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِ عَبْدٍ إِلَّا وَأَرَدْتُ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ فَتَعَلَّمْهَا ثُمَّ اعْمَلْ بِهَا ثُمَّ ابْذُلْهَا كَيْ تَنَالَ بِهَا كَرَامَتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
وَأَمَّا الزَّبُورُ
فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: «يَا دَاوُدُ قُلْ لِأَحْبَارِ بَنِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute