للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْإِنْسَانُ لَمَّا كَانَ خَاتَمَ الْمَخْلُوقَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ كَانَ أَفْضَلَهَا فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ لَمَّا كَانَ خَاتَمَ الْخِلَعِ الْفَائِضَةِ مِنْ حَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ كَانَ أَفْضَلَ الْخِلَعِ وَأَكْمَلَهَا، ثُمَّ نَظَرَ الْعَقْلُ فِي نَفْسِهِ فَرَأَى نَفْسَهُ كَالْجَفْنَةِ الْمَمْلُوءَةِ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ بَلْ كَأَنَّهَا سَمَاءٌ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَةِ وَهِيَ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ الْمَرْكُوزَةُ في بدائه الْعُقُولِ وَصَرَائِحِ الْأَذْهَانِ، وَكَمَا أَنَّ الْكَوَاكِبَ الْمَرْكُوزَةَ في السموات عَلَامَاتٌ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَاهِرُ الْمَرْكُوزَةُ فِي سَمَاءِ الْعَقْلِ كَوَاكِبٌ زَاهِرَةٌ يَهْتَدِي بِهَا السَّائِرُونَ فِي ظُلُمَاتِ عَالَمِ الأجسام إلى أنوار العالم الروحانية وفسحة السموات وَأَضْوَائِهَا. فَلَمَّا نَظَرَ الْعَقْلُ إِلَى تِلْكَ الْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَةِ وَالْجَوَاهِرِ الْبَاهِرَةِ رَأَى رَقْمَ الْحُدُوثِ عَلَى تِلْكَ الْجَوَاهِرِ وَعَلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْخِلَعِ فَاسْتَدَلَّ بِتِلْكَ الْأَرْقَامِ عَلَى رَاقِمٍ، وَبِتِلْكَ النُّقُوشِ عَلَى نَاقَشٍ. وَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّ النَّقَّاشَ بِخِلَافِ النَّقْشِ وَالْبَانِيَ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ، فَانْفَتَحَ لَهُ مِنْ أَعْلَى سَمَاءِ عَالَمِ الْمُحْدَثَاتِ رَوَازِنُ إِلَى أَضْوَاءِ لَوَائِحِ عَالَمِ الْقِدَمِ وَطَالَعَ عَالَمَ الْقِدَمِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْجَلَالِ وَكَانَ الْعَقْلُ إِنَّمَا نَظَرَ إِلَى أَضْوَاءِ عَالَمِ الْأَزَلِيَّةِ مِنْ ظُلُمَاتِ عَالَمِ الْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ فَغَلَبَتْهُ دَهْشَةُ أَنْوَارِ الْأَزَلِيَّةِ فَعَمِيَتْ عَيْنَاهُ فَبَقِيَ مُتَحَيِّرًا فَالْتَجَأَ بِطَبْعِهِ إِلَى مُفِيضِ الْأَنْوَارِ، فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فَإِنَّ الْبِحَارَ عَمِيقَةٌ وَالظُّلُمَاتِ مُتَكَاثِفَةٌ، وَفِي الطَّرِيقِ قُطَّاعٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ الدَّاخِلَةِ وَالْخَارِجَةِ وَشَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَثِيرَةٌ فَإِنْ لَمْ تَشْرَحْ لِي صَدْرِي وَلَمْ تَكُنْ لِي عَوْنًا فِي كُلِّ الْأُمُورِ انْقَطَعَتْ، وَصَارَتْ هَذِهِ الْخِلَعُ سَبَبًا لِنَيْلِ الْآفَاتِ لَا لِلْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ. فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْعَبْدِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ فَمَا لَمْ يَصِرِ الْعَبْدُ مُرِيدًا لَهُ اسْتَحَالَ أَنْ يَصِيرَ فَاعِلًا لَهُ، فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ فَاعِلٍ وَفَاعِلُهَا إِنْ كَانَ هُوَ الْعَبْدَ افْتَقَرَ فِي تَحْصِيلِ تِلْكَ الْإِرَادَةِ إِلَى

إِرَادَةٍ أُخْرَى، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى إِرَادَةٍ يَخْلُقُهَا مُدَبِّرُ الْعَالَمِ فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُيَسِّرَ لِلْأُمُورِ وَهُوَ الْمُتَمِّمَ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ أَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَابِلٍ وَفَاعِلٍ فَعَبَّرَ عَنِ اسْتِعْدَادِ الْقَابِلِ بِقَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَعَبَّرَ عَنْ حُصُولِ الْفَاعِلِ بِقَوْلِهِ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي يُعْطِي الْقَابِلَ قَابِلِيَّتَهُ وَالْفَاعِلَ فَاعِلِيَّتَهُ، وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ يَقُولُونَ: يَا مُبْتَدِئًا بِالنِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا.

وَمَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ كَالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَاقِعَةٌ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: كَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِلَهِي لَا أَكْتَفِي بِشَرْحِ الصَّدْرِ وَلَكِنْ أَطْلُبُ مِنْكَ تَنْفِيذَ الْأَمْرِ وَتَحْصِيلَ الْغَرَضِ فَلِهَذَا قَالَ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ الْخِلَعَ الْأَرْبَعَ وَهِيَ الْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعَقْلُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ يَا مُوسَى أَعْطَيْتُكَ هَذِهِ الْخِلَعَ الْأَرْبَعَ فَلَا بُدَّ فِي/ مُقَابَلِتِهَا مِنْ خِدْمَاتٍ أَرْبَعَ لِتُقَابَلَ كُلُّ نِعْمَةٍ بِخِدْمَةٍ. فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا تِلْكَ الْخِدْمَاتُ؟ فَقَالَ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي فَإِنَّ فِيهَا أَنْوَاعًا أَرْبَعَةً مِنَ الْخِدْمَةِ، الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَإِذَا أَتَيْتَ بِالصَّلَاةِ فَقَدْ قَابَلْتَ كُلَّ نِعْمَةٍ بِخِدْمَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ الْخِلْعَةَ الْخَامِسَةَ وَهِيَ خِلْعَةُ الرِّسَالَةِ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي حَتَّى أَعْرِفَ أَنِّي بِأَيِّ خِدْمَةٍ أُقَابِلُ هَذِهِ النِّعْمَةَ فَقِيلَ لَهُ بِأَنْ تَجْتَهِدَ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى مِنِّي مَعَ عَجْزِي وَضَعْفِي وَقِلَّةِ آلَاتِي وَقُوَّةِ خَصْمِي فَاشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي اعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبُ الْقُرْبِ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَإِنَّمَا اشْتَغَلَ مُوسَى بهذا الدعاء طلبا للقرب فنفتقر إِلَى بَيَانِ أَمْرَيْنِ إِلَى بَيَانِ أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبُ الْقُرْبِ ثُمَّ إِلَى بَيَانِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ الْقُرْبَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبُ الْقُرْبِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ السُّؤَالَ

<<  <  ج: ص:  >  >>