للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَقَامِ الدُّعَاءِ فَلَا وَاسِطَةَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ قِصَّةٍ وَقَعَتْ لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَتُهَا مِنَ الْمُهِمَّاتِ. قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

اذْكُرْ لَهُمْ تِلْكَ الْقِصَّةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [الْمَائِدَةِ: ٢٧] . وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها [الْأَعْرَافِ: ١٧٥] . وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى [مَرْيَمَ: ٥١] ، وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ [مَرْيَمَ: ٥٤] . وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ [مَرْيَمَ: ٥٦] . وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الْحِجْرِ: ٥١] ، ثُمَّ قَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: ٣] وَفِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الْكَهْفِ: ١٣] . وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا فِي هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ، وَالْحَاصِلُ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ غَيْرِي فَكُنْ أَنْتَ الْمُجِيبَ، وَإِذَا سُئِلْتَ عَنِّي فَاسْكُتْ أَنْتَ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الْقَائِلَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ [أَنْ يَسْأَلَ] وَقَوْلَهُ: فَإِنِّي قَرِيبٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ قَرِيبٌ مِنَ الْعَبْدِ. وَثَالِثُهَا: لَمْ يَقُلْ فَالْعَبْدُ مِنِّي قَرِيبٌ، بَلْ قَالَ أَنَا مِنْهُ قَرِيبٌ، وَهَذَا فِيهِ سِرٌّ نَفِيسٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ، هُوَ فِي مَرْكَزِ الْعَدَمِ وَحَضِيضِ الْفَنَاءِ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَرِيبًا، بَلِ الْقَرِيبُ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ جَعَلَهُ مَوْجُودًا وَقَرَّبَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَالْقُرْبُ مِنْهُ لَا من العبد فلهذا قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الدَّاعِيَ مَا دَامَ يَبْقَى خَاطِرُهُ مَشْغُولًا بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاعِيًا للَّه تَعَالَى فَإِذَا فَنِيَ عَنِ الْكُلِّ وَصَارَ مُسْتَغْرِقًا بِمَعْرِفَةِ اللَّه الْأَحَدِ الْحَقِّ امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ عَنْ غَيْرِ اللَّه مَعَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّه تَعَالَى فَلَا جَرَمَ رُفِعَتِ الْوَاسِطَةُ مِنَ الْبَيْنِ فَمَا قَالَ: فَقُلْ إِنِّي قَرِيبٌ بَلْ قَالَ: فَإِنِّي قَرِيبٌ فَثَبَتَ بِمَا تَقَرَّرَ فَضْلُ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ ثُمَّ مِنْ شَأْنِ الْعَبْدِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُتْحِفَ مَوْلَاهُ أَنْ لَا يُتْحِفَهُ إِلَّا بِأَحْسَنِ التُّحَفِ وَالْهَدَايَا فَلَا/ جَرَمَ أَوَّلُ مَا أَرَادَ مُوسَى أَنْ يُتْحِفَ الْحَضْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ بِتُحَفِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ أَتْحَفَهَا بِالدُّعَاءِ فَلَا جَرَمَ قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ فَضْلِ الدُّعَاءِ

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ»

ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (العبادة) لأن قوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ [طه: ١٤] إِخْبَارٌ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ إِنَّمَا الْأَمْرُ قَوْلُهُ: فَاعْبُدْنِي [طه: ١٤] فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ مَا أُورِدَ عَلَى مُوسَى مِنَ الْأَوَامِرِ هُوَ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ لَا جَرَمَ أَوَّلُ مَا أَتْحَفَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَضْرَةَ الرُّبُوبِيَّةِ مِنْ تُحَفِ الْعِبَادَةِ هُوَ تُحْفَةُ الدُّعَاءِ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ فَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَكَذَلِكَ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٦] . وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٠] . وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً [الْأَعْرَافِ: ٥٦] . ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَافِ: ٥٥] . هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِرٍ: ٦٥] . قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الْإِسْرَاءِ: ١١٠] . وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الْأَعْرَافِ: ٢٠٥]

وقال صلى اللَّه عليه وسلم: «ادعوا بيا ذا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»

فَبِهَذِهِ الْآيَاتِ عَرَفْنَا أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ قَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ: الدُّعَاءُ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَنْفُسِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى الدُّعَاءِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ وَإِنْ كَانَ معلوم اللاوقوع فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَثَالِثُهَا: الدُّعَاءَ يُشْبِهُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى سُوءُ أَدَبٍ. وَرَابِعُهَا: الْمَطْلُوبُ بِالدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ فَالْحَكِيمُ لَا يُهْمِلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَصَالِحِ لَمْ يَجُزْ طَلَبُهُ. وَخَامِسُهَا: فَقَدْ جَاءَ أَنَّ أَعْظَمَ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى. وَقَدْ نُدِبَ إِلَيْهِ وَالدُّعَاءُ يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالِالْتِمَاسِ وَالطَّلَبِ. وَسَادِسُهَا:

قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رِوَايَةً عَنِ اللَّه تَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي

<<  <  ج: ص:  >  >>