للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شانه»

ولهذا خلق السموات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لِيُتَعَلَّمَ مِنْهُ الرِّفْقُ وَالثَّبَاتُ فَهَذِهِ هِيَ الْخُصُومَةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ، وَقَلْبُكَ وَصَدْرُكَ هُوَ الْقَلْعَةُ. ثُمَّ إِنَّ لِهَذَا الصَّدْرِ الَّذِي هُوَ الْقَلْعَةُ خَنْدَقًا وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَعَدَمُ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَلَهُ سُورٌ وهو الرغبة الْآخِرَةِ وَمَحَبَّةُ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ كَانَ الْخَنْدَقُ عَظِيمًا وَالسُّورُ قَوِيًّا عَجَزَ عَسْكَرُ الشَّيْطَانِ عَنْ تَخْرِيبِهِ فَرَجَعُوا وَرَاءَهُمْ وَتَرَكُوا الْقَلْعَةَ كَمَا كَانَتْ وَإِنْ كَانَ خَنْدَقُ الزُّهْدِ غَيْرَ عَمِيقٍ وَسُورُ حُبِّ الْآخِرَةِ غَيْرَ قَوِيٍّ قَدَرَ الْخَصْمُ عَلَى اسْتِفْتَاحِ قَلْعَةِ الصَّدْرِ فَيَدْخُلُهَا وَيَبِيتُ فِيهَا جُنُودُهُ مِنَ الْهَوَى وَالْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْبُخْلِ وَسُوءِ الظَّنِّ باللَّه تَعَالَى وَالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ فَيَنْحَصِرُ الْمَلِكُ فِي الْقَصْرِ وَيَضِيقُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَإِذَا جَاءَ مَدَدُ التَّوْفِيقِ وَأَخْرَجَ هَذَا الْعَسْكَرَ مِنَ الْقَلْعَةِ انْفَسَحَ الْأَمْرُ وَانْشَرَحَ الصَّدْرُ وَخَرَجَتْ ظُلُمَاتُ الشَّيْطَانِ وَدَخَلَتْ أَنْوَارُ هِدَايَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. الْمِثَالُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ مَعْدِنَ النُّورِ هُوَ الْقَلْبُ وَاشْتِغَالُ الْإِنْسَانِ بِالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالرَّغْبَةُ فِي مُصَاحَبَةِ النَّاسِ وَالْخَوْفُ مِنَ الْأَعْدَاءِ هُوَ الْحِجَابُ الْمَانِعُ مِنْ وُصُولِ نُورِ شَمْسِ الْقَلْبِ إِلَى فَضَاءِ الصَّدْرِ فَإِذَا قَوَّى اللَّه بَصِيرَةَ الْعَبْدِ حَتَّى طَالَعَ عَجْزَ الْخَلْقِ وَقِلَّةَ فَائِدَتِهِمْ فِي الدَّارَيْنِ صَغُرُوا فِي عَيْنِهِ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ عَدَمٌ مَحْضٌ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: ٨٨] فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَأَمَّلُ فِيمَا سِوَى اللَّه تَعَالَى إِلَى أَنْ يُشَاهِدَ أَنَّهُمْ عَدَمٌ مَحْضٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَزُولُ/ الْحِجَابُ بَيْنَ قَلْبِهِ وَبَيْنَ أَنْوَارِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَإِذَا زَالَ الْحِجَابُ امْتَلَأَ الْقَلْبُ مِنَ النُّورِ فَذَلِكَ هُوَ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ.

الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي الصَّدْرِ اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِيءُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَلْبُ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزُّمَرِ: ٢٢] ، رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [الْعَادِيَاتِ: ١٠] ، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غَافِرٍ: ١٩] وَقَدْ يَجِيءُ وَالْمُرَادُ الْفَضَاءُ الَّذِي فِيهِ الصَّدْرُ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: ٤٦] وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ هَلْ هُوَ الْقَلْبُ أَوِ الدِّمَاغُ وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّهُ الْقَلْبُ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣، ١٩٤] وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمَوَادُّ أَرْبَعَةٌ: الصَّدْرُ وَالْقَلْبُ وَالْفُؤَادُ وَاللُّبُّ فَالصَّدْرُ مَقَرُّ الْإِسْلَامِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزُّمَرِ: ٢٢] وَالْقَلْبُ مَقَرُّ الْإِيمَانِ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ٧] وَالْفُؤَادُ مَقَرُّ الْمَعْرِفَةِ: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النَّجْمِ: ١١] ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: ٣٦] واللب مقر التوحيد:

إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرَّعْدِ: ١٩] وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ أَوَّلُ مَا بُعِثَ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ بُعِثَ خَالِيًا عَنِ النُّقُوشِ كَاللَّوْحِ السَّاذَجِ وَهُوَ فِي عَالَمِ الْبَدَنِ كَاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَكْتُبُ فِيهِ بِقَلَمِ الرَّحْمَةِ وَالْعَظَمَةِ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِعَالَمِ الْعَقْلِ مِنْ نُقُوشِ الْمَوْجُودَاتِ وَصُوَرِ الْمَاهِيَّاتِ وَذَلِكَ يَكُونُ كَالسَّطْرِ الْوَاحِدِ إِلَى آخِرِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لِهَذَا الْعَالَمِ الْأَصْغَرِ وَذَلِكَ هُوَ الصُّورَةُ الْمُجَرَّدَةُ وَالْحَالَةُ الْمُطَهَّرَةُ، ثُمَّ إِنَّ الْعَقْلَ يَرْكَبُ سَفِينَةَ التَّوْفِيقِ وَيُلْقِيهَا فِي بِحَارِ أَمْوَاجِ الْمَعْقُولَاتِ وَعَوَالِمِ الرُّوحَانِيَّاتِ فَيَحْصُلُ مِنْ مَهَابِّ رِيَاحِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ رَخَاءُ السَّعَادَةِ تَارَةً وَدَبُورُ الْإِدْبَارِ أُخْرَى، فَرُبَّمَا وَصَلَتْ سَفِينَةُ النَّظَرِ إِلَى جَانِبٍ مُشْرِقِ الْجَلَالِ فَتَسْطَعُ عَلَيْهِ أَنْوَارُ الْإِلَهِيَّةِ وَيَتَخَلَّصُ الْعَقْلُ عَنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ، وَرُبَّمَا تَوَغَّلَتِ السَّفِينَةُ فِي جُنُوبِ الْجَهَالَاتِ فَتَنْكَسِرُ وَتَغْرَقُ فَحَيْثُمَا تُكُونُ السَّفِينَةُ فِي مُلْتَطِمِ أَمْوَاجِ الْعِزَّةِ يَحْتَاجُ حَافِظُ السَّفِينَةِ إِلَى الْتِمَاسِ الْأَنْوَارِ وَالْهِدَايَاتِ فَيَقُولُ هُنَاكَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَاعْلَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>