للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ الْعَقْلَ إِذَا أَخَذَ فِي التَّرَقِّي مِنْ سُفْلِ الْإِمْكَانِ إِلَى عُلُوِّ الْوُجُوبِ كَثُرَ اشْتِغَالُهُ بِمُطَالَعَةِ الْمَاهِيَّاتِ وَمُقَارَفَةِ الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَاهِيَّةٍ فَهِيَ إِمَّا هِيَ مَعَهُ أَوْ هِيَ لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ مَعَهُ امْتَلَأَتِ الْبَصِيرَةُ مِنْ أَنْوَارِ جَلَالِ الْعِزَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا يَبْقَى هُنَاكَ مُسْتَطْلِعًا لِمُطَالَعَةِ سَائِرِ الْأَنْوَارِ فَيَضْمَحِلُّ كُلُّ مَا سِوَاهُ مِنْ بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، وَإِنْ وَقَعَتِ الْمُطَالَعَةُ لِمَا هُوَ لَهُ حَصَلَتْ هُنَاكَ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ وُضِعَتْ كُرَةٌ صَافِيَةٌ مِنَ الْبَلُّورِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا شُعَاعُ الشَّمْسِ فَيَنْعَكِسُ ذَلِكَ الشُّعَاعُ إِلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي إِلَيْهِ تَنْعَكِسُ الشُّعَاعَاتُ يَحْتَرِقُ فَجَمِيعُ الْمَاهِيَّاتِ الْمُمْكِنَةِ كَالْبَلُّورِ الصَّافِي الْمَوْضُوعِ فِي مُقَابَلَةِ شَمْسِ الْقُدُسِ وَنُورِ الْعَظَمَةِ وَمَشْرِقِ الْجَلَالِ، فَإِذَا وَقَعَ لِلْقَلْبِ الْتِفَاتٌ إِلَيْهَا حَصَلَتْ لِلْقَلْبِ نِسْبَةٌ إِلَيْهَا بِأَسْرِهَا فَيَنْعَكِسُ شُعَاعُ كِبْرِيَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى الْقَلْبِ فَيَحْتَرِقُ الْقَلْبُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْمَحْرَقُ أَكْثَرَ، كَانَ الِاحْتِرَاقُ أَتَمَّ فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي حَتَّى أَقْوَى عَلَى إِدْرَاكِ دَرَجَاتِ الْمُمْكِنَاتِ فَأَصِلُ إِلَى/ مَقَامِ الِاحْتِرَاقِ بِأَنْوَارِ الْجَلَالِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ» فَلَمَّا شَاهَدَ احْتِرَاقَهَا بِأَنْوَارِ الْجَلَالِ قَالَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» .

الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي بَقِيَّةِ الْأَبْحَاثِ إِنَّمَا قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَلَمْ يَقُلْ رَبِّ اشْرَحْ صَدْرِي لِيُظْهِرَ أَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ الشَّرْحِ عَائِدَةٌ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا إِلَى اللَّه، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ شَرْحِ صَدْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرْحِ صَدْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْحِ: ١] واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَالْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ خَلْقُهَا وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ تَحْرِيكُ الدَّوَاعِي وَالْبَوَاعِثِ بِفِعْلِ الْأَلْطَافِ الْمُسَهِّلَةِ، فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ مَا أَمْكَنَ مِنَ اللُّطْفِ فَقَدْ فَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ، قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مِنَ الْأَلْطَافِ مَا لَا يَحْسُنُ فِعْلُهَا إِلَّا بَعْدَ هَذَا السُّؤَالِ فَفَائِدَةُ السُّؤَالِ حُسْنُ فِعْلِ تِلْكَ الْأَلْطَافِ.

الْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ النُّطْقَ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَنِ: ٣، ٤] وَلَمْ يَقُلْ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ لِأَنَّهُ لَوْ عَطَفَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ مُغَايِرًا لَهُ، أَمَّا إِذَا تَرَكَ الْحَرْفَ الْعَاطِفَ صَارَ قَوْلُهُ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ كَأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ خَالِقًا لِلْإِنْسَانِ إِذَا عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْإِنْسَانِ هِيَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ. وَثَانِيهَا: اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ اللِّسَانِ، قَالَ زُهَيْرٌ:

لِسَانُ الْفَتَى نَصِفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ

وَقَالَ عَلِيٌّ: مَا الْإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ إِلَّا بَهِيمَةٌ مُهْمَلَةٌ أَوْ صُورَةٌ مُمَثَّلَةٌ.

وَالْمَعْنَى أَنَّا لَوْ أَزَلْنَا الْإِدْرَاكَ الذِّهْنِيَّ وَالنُّطْقَ اللِّسَانِيَّ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا الْقَدْرُ الْحَاصِلُ فِي الْبَهَائِمِ، وَقَالُوا: الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ.

وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ» .

وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِي مُنَاظَرَةِ آدَمَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ مَا ظَهَرَتِ الْفَضِيلَةُ إِلَّا بِالنُّطْقِ حَيْثُ قَالَ: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: ٣٣] . وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الرُّوحِ وَالْقَالَبِ وَرُوحُهُ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ يستفيد أبدا

<<  <  ج: ص:  >  >>