للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرُجُوعُ بَعْضِهَا إِلَيْهِ وَبَعْضِهَا إِلَى التَّابُوتِ يُؤَدِّي إِلَى تَنَافُرِ النَّظْمِ فَإِنْ قِيلَ الْمَقْذُوفُ فِي الْبَحْرِ هُوَ التَّابُوتُ وَكَذَلِكَ الْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ قُلْنَا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَالَ الْمَقْذُوفُ وَالْمُلْقَى هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ/ فِي جَوْفِ التَّابُوتِ حَتَّى لَا تَتَفَرَّقَ الضَّمَائِرُ وَلَا يَحْصُلَ التَّنَافُرُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لَمَّا كَانَ تَقْدِيرُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُجْرِيَ مَاءَ الْيَمِّ وَيُلْقِيَ بِذَلِكَ التَّابُوتِ إِلَى السَّاحِلِ سَلَكَ فِي ذَلِكَ سَبِيلَ الْمَجَازِ وَجَعَلَ الْيَمَّ كَأَنَّهُ ذُو تَمْيِيزٍ أُمِرَ بِذَلِكَ لِيُطِيعَ الْأَمْرَ وَيَمْتَثِلَ رَسْمَهُ فَقِيلَ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أَمَّا قَوْلُهُ: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: يَأْخُذْهُ جَوَابُ الْأَمْرِ أَيِ اقْذِفِيهِ يَأْخُذْهُ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ كَانَتْ بِحَيْثُ تَسْتَسْقِي الْجَوَارِيَ فَبَصُرَتْ بِالتَّابُوتِ فَأَمَرَتْ بِهِ فَأَخَذَتِ التَّابُوتَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ أَخْذِ فِرْعَوْنَ التَّابُوتَ قَبُولَهُ لَهُ وَاسْتِحْبَابَهُ إِيَّاهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى التَّابُوتَ بِمَوْضِعٍ مِنَ السَّاحِلِ فِيهِ فُوَّهَةُ نَهْرِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ أَدَّاهُ النَّهْرُ إِلَى بِرْكَةِ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا رَآهُ أَخَذَهُ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ فِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِحَيْثُ يُعَادَى. وَجَوَابُهُ: أَمَّا كَوْنُهُ عَدُوًّا للَّه مِنْ جِهَةِ كُفْرِهِ وَعُتُوِّهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ عَدُوًّا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُحْتَمَلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ لَهُ حاله لقتله ويحتمل أنه من حيث يؤول أَمْرُهُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ. الْمِنَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً هِيَ مِنِّي قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

مِنِّي لَا يَخْلُو إِمَّا أن يتعلق بألقيت فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَنِّي أَحْبَبْتُكَ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّه أَحَبَّتْهُ الْقُلُوبُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ صفة لمحبة أَيْ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً حَاصِلَةً مِنِّي وَاقِعَةً بِخَلْقِي فَلِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ حَتَّى قَالَتْ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ [الْقَصَصِ: ٩]

يُرْوَى أَنَّهُ كَانَتْ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةُ جَمَالٍ وَفِي عَيْنَيْهِ مَلَاحَةٌ لَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ

وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مَرْيَمَ: ٩٦] قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ لَا يَكَادُ يُوصَفُ بِمَحَبَّةِ اللَّه تَعَالَى الَّتِي ظَاهِرُهَا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَيْفِيَّتِهِ فِي الْخِلْقَةِ يُسْتَحْلَى وَيُغْتَبَطُ فَكَذَلِكَ كَانَتْ حَالُهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ وَسَهَّلَ اللَّه تَعَالَى لَهُ مِنْهُمَا فِي التَّرْبِيَةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بَلِ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ يُحْوِجُ إِلَى الْإِضْمَارِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ:

وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً حَاصِلَةً مِنِّي وَوَاقِعَةً بِتَخْلِيقِي وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ بَقِيَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ حَالَ صِبَاهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَحَبَّةُ اللَّه تَعَالَى قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّه تَعَالَى يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَى عِبَادِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى كَانَ حَاصِلًا فِي حَقِّهِ فِي حَالِ صِبَاهُ وَعَلِمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَمِرُّ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ فَلَا جَرَمَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْمَحَبَّةِ. الْمِنَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي قَالَ الْقَفَّالُ: لِتُرَى عَلَى عَيْنِي أَيْ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِي، وَمَجَازُ هَذَا أَنَّ مَنْ صَنَعَ لِإِنْسَانٍ شَيْئًا وَهُوَ حَاضِرٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ صَنَعَهُ لَهُ كَمَا يُحِبُّ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُخَالِفُ غرضه فكذا هاهنا وَفِي كَيْفِيَّةِ الْمَجَازِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ العين العلم أي تُرَى عَلَى عِلْمٍ مِنِّي وَلَمَّا كَانَ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَحْرُسُهُ عَنِ الْآفَاتِ/ كَمَا أَنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهِ يَحْرُسُهُ عَنِ الْآفَاتِ أُطْلِقَ لَفْظُ الْعَيْنِ عَلَى الْعِلْمِ لِاشْتِبَاهِهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الْعَيْنِ الْحِرَاسَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاظِرَ إِلَى الشَّيْءِ يَحْرُسُهُ عَمَّا يُؤْذِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>