للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْعَيْنُ كَأَنَّهَا سَبَبُ الْحِرَاسَةِ فَأَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ مَجَازًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦] وَيُقَالُ: عَيْنُ اللَّه عَلَيْكَ إِذَا دَعَا لَكَ بِالْحِفْظِ وَالْحِيَاطَةِ، قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي الْحِفْظُ وَالْحِيَاطَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ فَصَارَ ذَلِكَ كالتفسير لحياطة اللَّه تعالى له، بقي هاهنا بَحْثَانِ:

الْأَوَّلُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ثَمَّ يَكُونُ قَوْلُهُ: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى وإِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ تَمْشِي وَذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٥] . وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ مُقْحَمَةً أَيْ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي لِتُصْنَعَ وَهَذَا ضَعِيفٌ.

الثَّانِي: قُرِئَ وَلِتُصْنَعَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِهَا وَالْجَزْمُ عَلَى أَنَّهُ أُمِرَ وَقُرِئَ وَلِتَصْنَعَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالنَّصْبِ أَيْ وَلِيَكُونَ عَمَلُكَ وَتَصَرُّفَكَ عَلَى عِلْمٍ مِنِّي. الْمِنَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذْ تَمْشِي أَلْقَيْتُ أَوْ تُصْنَعُ،

يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا فَشَا الْخَبَرُ بِمِصْرَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ أَخَذُوا غُلَامًا فِي النِّيلِ وَكَانَ لَا يَرْتَضِعُ مِنْ ثَدْيِ كُلِّ امْرَأَةٍ يُؤْتَى بِهَا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ غَيْرَ أُمِّهِ اضْطُرُّوا إِلَى تَتَبُّعِ النِّسَاءِ فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أُخْتُ مُوسَى جَاءَتْ إِلَيْهِمْ مُتَنَكِّرَةً فَقَالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ [القصص: ١٢] ثُمَّ جَاءَتْ بِالْأُمِّ فَقَبِلَ ثَدْيَهَا فَرَجَعَ إِلَى أُمِّهِ بِمَا لَطَفَ اللَّه تَعَالَى لَهُ مِنْ هَذَا التَّدْبِيرِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ أَيْ رَدَدْنَاكَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ [الْقَصَصِ: ١٣] وَهُوَ كَقَوْلِهِ: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩] أَيْ رُدُّونِي إِلَى الدُّنْيَا، أَمَّا قَوْلُهُ: كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رَدِّكَ إِلَيْهَا حُصُولُ السُّرُورِ لَهَا وَزَوَالُ الْحُزْنِ عَنْهَا، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ كَيْ لَا تَحْزَنَ وَتَقَرَّ عَيْنُهَا كَانَ الْكَلَامُ مُفِيدًا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْحُزْنِ حُصُولُ السُّرُورِ لَهَا، وَأَمَّا لَمَّا قَالَ أَوَّلًا كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا كَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلا تَحْزَنَ فَضْلًا لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ السُّرُورُ وَجَبَ زَوَالُ الْغَمِّ لَا مَحَالَةَ، قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَقَرُّ عَيْنُهَا بِسَبَبِ وُصُولِكَ إِلَيْهَا فَيَزُولُ عَنْهَا الْحُزْنُ بِسَبَبِ عَدَمِ وُصُولِ لَبَنِ غَيْرِهَا إِلَى بَاطِنِكَ. وَالْمِنَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ فَالْمُرَادُ بِهِ وَقَتَلْتَ بَعْدَ كِبَرِكَ نَفْسًا وَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي قَتَلَهُ خَطَأً بِأَنْ وَكَزَهُ حَيْثُ اسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَيْهِ وَكَانَ قِبْطِيًّا فَحَصَلَ لَهُ الْغَمُّ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا وَهُوَ اقْتِصَاصُ فِرْعَوْنَ مِنْهُ مَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ [الْقَصَصِ: ١٨] وَالْآخَرُ مِنْ عِقَابِ اللَّه تَعَالَى حَيْثُ قَتَلَهُ لَا بأمر اللَّه تعالى فَنَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْغَمَّيْنِ، أَمَّا مِنْ فِرْعَوْنَ فَحِينَ وَفَّقَ لَهُ الْمُهَاجَرَةَ إِلَى مَدْيَنَ/ وَأَمَّا مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَفَرَ لَهُ ذَلِكَ. الْمِنَّةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِهِ: فُتُوناً وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْعُكُوفِ وَالْجُلُوسِ وَالْمَعْنَى وَفَتَنَّاكَ حَقًّا وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي تَأْكِيدِ الْأَخْبَارِ بِالْمَصَادِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاءِ: ١٦٤] ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعُ فَتْنٍ أَوْ فُتْنَةٍ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِدَادِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ كَحُجُوزٍ وَبُدُورٍ فِي حُجْزَةٍ وَبَدْرَةٍ أَيْ فَتَنَّاكَ ضروبا من الفتن وهاهنا سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى عَدَّدَ أَنْوَاعَ مِنَنِهِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَكَيْفَ

<<  <  ج: ص:  >  >>