للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصُّنْعِ. يُقَالُ: اصْطَنَعَ فُلَانٌ فُلَانًا أَيِ اتَّخَذَهُ صَنِيعَهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْكُلِّ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِنَفْسِي.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ مِنْ مَنْزِلَةِ التَّقْرِيبِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّكْلِيمِ مَثَّلَ حَالَهُ بِحَالِ مَنْ يَرَاهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ لِجَوَامِعِ خِصَالٍ فِيهِ أَهْلًا لِأَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ النَّاسِ مَنْزِلَةً إِلَيْهِ وَأَشَدَّهُمْ قُرْبًا مِنْهُ.

وَثَانِيهَا: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِذَا كَلَّفَ عِبَادَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْطُفَ بِهِمْ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَلْطَافِ مَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا سَمْعًا فَلَوْ لَمْ يَصْطَنِعْهُ بِالرِّسَالَةِ لَبَقِيَ فِي عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فَصَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالنَّائِبِ عَنْ رَبِّهِ فِي أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَصَحَّ أَنْ يَقُولَ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي، قَالَ الْقَفَّالُ وَاصْطَنَعْتُكَ أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمُ اصْطَنَعَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ حَتَّى يُضَافَ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: هَذَا صَنِيعُ فُلَانٍ وَجَرِيحُ فُلَانٍ وَقَوْلُهُ لِنَفْسِي: أَيْ لِأُصَرِّفَكَ فِي أَوَامِرِي لِئَلَّا تَشْتَغِلَ بِغَيْرِ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ وَهُوَ إِقَامَةُ حُجَّتِي وَتَبْلِيغُ رِسَالَتِي وَأَنْ تَكُونَ فِي حَرَكَاتِكَ وَسَكَنَاتِكَ لِي لَا لِنَفْسِكَ وَلَا لِغَيْرِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ عَلَيْهِ الْمِنَنَ الثَّمَانِيَةَ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الِالْتِمَاسَاتِ الثَّمَانِيَةِ رَتَّبَ عَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ أَمْرًا وَنَهْيًا، أَمَّا الْأَمْرُ فَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعَادَ الْأَمْرَ بِالْأَوَّلِ فقال: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي [في قوله تعالى اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي] وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي عقبه بذكر ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء ثم هاهنا مسائل:

المسألة الأولى: الباء هاهنا بِمَعْنَى مَعَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَوْ ذَهَبَا إِلَيْهِ بِدُونِ آيَةٍ مَعَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِيمَانُ وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ.

الْمَسْأَلَةُ الثانية: اختلفوا في الآيات المذكورة هاهنا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْيَدُ وَالْعَصَا لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ جَرَى ذِكْرُهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي اقْتَصَّ اللَّه تَعَالَى فِيهَا/ حَدِيثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أُوتِيَ قَبْلَ مَجِيئِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَلَا بَعْدَ مَجِيئِهِ حَتَّى لَقِيَ فِرْعَوْنَ فَالْتَمَسَ مِنْهُ آيَةً غَيْرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَالَ تَعَالَى عنه: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: ٣١- ٣٣] وَقَالَ: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الْقَصَصِ: ٣٢] فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ كَيْفَ يُطْلَقُ لَفْظُ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَجَابُوا بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَصَا مَا كَانَتْ آيَةً وَاحِدَةً بَلْ كَانَتْ آيَاتٍ فَإِنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا حَيَوَانًا آيَةٌ ثُمَّ إِنَّهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَتْ صَغِيرَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ [النَّمْلِ: ١٠] ثُمَّ كَانَتْ تَعْظُمُ وَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى، ثُمَّ كَانَتْ تَصِيرُ ثُعْبَانًا وَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى.

ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي فِيهَا فَمَا كَانَتْ تَضُرُّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى ثُمَّ كَانَتْ تَنْقَلِبُ خَشَبَةً فَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْيَدُ فَإِنَّ بَيَاضَهَا آيَةٌ وَشُعَاعَهَا آيَةٌ أُخْرَى ثُمَّ زَوَالَهُمَا بَعْدَ حُصُولِهِمَا آيَةٌ أُخْرَى فَصَحَّ أَنَّهُمَا كَانَتَا آيَاتٍ كَثِيرَةً لَا آيَتَانِ. الثَّانِي: هَبْ أَنَّ الْعَصَا أَمْرٌ وَاحِدٌ لَكِنَّ فِيهَا آيَاتٍ كَثِيرَةً لِأَنَّ انْقِلَابَهَا حَيَّةٌ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ إِلَهٍ قَادِرٍ عَلَى الْكُلِّ عَالِمٍ بِالْكُلِّ حَكِيمٍ وَيَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَشْرِ حَيْثُ انْقَلَبَ الْجَمَادُ حَيَوَانًا فَهَذِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً إِلَى قَوْلِهِ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٦، ٩٧] فَإِذَا وُصِفَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ بِأَنَّ فِيهِ آيَاتٌ فَالشَّيْئَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ. الثَّالِثُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ عَلَى مَا عَرَفْتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: اذْهَبَا بِآيَاتِي مَعْنَاهُ أَنِّي أُمِدُّكُمَا بِآيَاتِي وَأُظْهِرُ عَلَى أَيْدِيكُمَا مِنَ الْآيَاتِ مَا تُزَاحُ بِهِ الْعِلَلُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَاذْهَبَا فَإِنَّ آيَاتِي مَعَكُمَا كَمَا يُقَالُ اذْهَبْ فَإِنَّ جُنْدِي مَعَكَ أَيْ أَنِّي أَمِدُّكَ بِهِمْ مَتَى احتجت.

<<  <  ج: ص:  >  >>