لَا جَرَمَ لَا يُسَمَّى ذَلِكَ حِفْظًا. وَخَامِسُهَا: التَّذَكُّرُ وَهُوَ أَنَّ الصُّورَةَ الْمَحْفُوظَةَ إِذَا زَالَتْ عَنِ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ فَإِذَا حَاوَلَ الذِّهْنُ اسْتِرْجَاعَهَا فَتِلْكَ الْمُحَاوَلَةُ هِيَ التَّذَكُّرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلتَّذَكُّرِ سِرًّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَنَّ التَّذَكُّرَ صَارَ عِبَارَةً عَنْ طَلَبِ رُجُوعِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْمَمْحِيَّةِ الزَّائِلَةِ فَتِلْكَ الصُّورَةُ إِنْ كَانَتْ مَشْعُورًا بِهَا فَهِيَ حَاضِرَةٌ حَاصِلَةٌ وَالْحَاصِلُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ فَلَا يُمْكِنُ حِينَئِذٍ اسْتِرْجَاعُهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْعُورًا بِهَا كَانَ الذِّهْنُ غَافِلًا عَنْهَا وَإِذَا كَانَ غَافِلًا عَنْهَا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِاسْتِرْجَاعِهَا لِأَنَّ طَلَبَ مَا لَا يَكُونُ مُتَصَوَّرًا مُحَالٌ فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ التَّذَكُّرُ الْمُفَسَّرُ بِطَلَبِ الِاسْتِرْجَاعِ مُمْتَنِعًا مَعَ أَنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّا قَدْ نَطْلُبُهَا وَنَسْتَرْجِعُهَا وَهَذِهِ الْأَسْرَارُ إِذَا تَوَغَّلَ الْعَاقِلُ فِيهَا وَتَأَمَّلَهَا عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ كُنْهَهَا مَعَ أَنَّهَا مِنْ أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ النَّاسِ فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ أَخْفَى الْأُمُورِ وَأَعْضَلُهَا عَلَى الْعُقُولِ وَالْأَذْهَانِ. وَسَادِسُهَا: الذِّكْرُ فَالصُّورَةُ الزَّائِلَةُ إِذَا حَاوَلَ اسْتِرْجَاعَهَا فَإِذَا عَادَتْ وَحَضَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الطَّلَبِ سُمِّيَ ذَلِكَ الْوِجْدَانُ ذِكْرًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِدْرَاكُ مَسْبُوقًا بِالزَّوَالِ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ الْإِدْرَاكُ ذِكْرًا وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَذْكُرُهُ ... وَكَيْفَ أَذْكُرُهُ إِذْ لَسْتُ أَنْسَاهُ
فَجَعَلَ حُصُولَ النِّسْيَانِ شَرْطًا لِحُصُولِ الذِّكْرِ وَيُوصَفُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ سَبَبُ حُصُولِ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] وهاهنا دَقِيقَةٌ تَفْسِيرِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٥٢] فَهَذَا الْأَمْرُ هَلْ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْعَبْدِ حَالَ حُصُولِ النِّسْيَانِ أَوْ بَعْدَ زَوَالِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ حَالَ النِّسْيَانِ غَافِلٌ عَنِ الْأَمْرِ وَكَيْفَ يُوَجَّهُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ مَعَ النِّسْيَانِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ ذَاكِرٌ وَالذِّكْرُ حَاصِلٌ وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَكَيْفَ كَلَّفَهُ بِهِ/ وَهُوَ أَيْضًا مُتَوَجَّهٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [مُحَمَّدٍ: ١٩] إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ فِي قَوْلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةٌ لِلتَّوْحِيدِ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّصْدِيقَاتِ فَلَا يَقْوَى فِيهِ ذَلِكَ الْإِشْكَالُ وَأَمَّا الذِّكْرُ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّصَوُّرَاتِ فَيَقْوَى فِيهِ ذَلِكَ الْإِشْكَالُ وَجَوَابُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّهُ يُمْكِنُنَا التَّذَكُّرُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا كَانَ مَا ذَكَرْتُهُ تَشْكِيكًا فِي الضَّرُورِيَّاتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَكَيْفَ يَتَذَكَّرُ فَنَقُولُ لَا نَعْرِفُ كَيْفَ يَتَذَكَّرُ لَكِنَّ عِلْمَكَ بِتَمَكُّنِكَ فِي عِلْمِكَ بِأَنَّ فِي الْجُمْلَةِ يَكْفِيكَ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْمُجَاهِدَةِ وَعَجْزِكَ عَنْ إِدْرَاكِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ يَكْفِيكَ مِنَ التَّذَكُّرِ ذاك ليس منك بل هاهنا سِرٌّ آخَرُ وَهُوَ أَنَّكَ لَمَّا عَجَزْتَ عَنْ إِدْرَاكِ مَاهِيَّةِ التَّذَكُّرِ وَالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُ صِفَتُكَ فَأَنَّى يُمْكِنُكَ الْوُقُوفُ عَلَى كُنْهِ الْمَذْكُورِ مَعَ أَنَّهُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ مُنَاسَبَةً مِنْكَ فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ أَظْهَرَ الْأَشْيَاءِ أَخْفَاهَا لِيَتَوَصَّلَ الْعَبْدُ بِهِ إِلَى كُنْهِ عَجْزِهِ وَنِهَايَةِ قُصُورِهِ فَحِينَئِذٍ يُطَالِعُ شَيْئًا مِنْ مَبَادِئِ مَقَادِيرِ أَسْرَارِ كَوْنِهِ ظَاهِرًا بَاطِنًا. وَسَابِعُهَا: الْمَعْرِفَةُ وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمَعْرِفَةُ إِدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْعِلْمُ إِدْرَاكُ الْكُلِّيَّاتِ وَآخَرُونَ قَالُوا الْمَعْرِفَةُ التَّصَوُّرُ وَالْعِلْمُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْعِرْفَانَ أَعْظَمَ دَرَجَةً مِنَ الْعِلْمِ قَالُوا لِأَنَّ تَصْدِيقَنَا بِاسْتِنَادِ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَى مَوْجُودٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَأَمَّا تَصَوُّرُ حَقِيقَتِهِ فَأَمْرٌ فَوْقَ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ مَا لَمْ يُعْرَفْ وُجُودُهُ فَلَا تُطْلَبُ مَاهِيَّتُهُ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ كُلُّ عَارِفٍ عَالِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ عَالِمٍ عَارِفًا وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمَّى بِالْعَارِفِ إِلَّا إِذَا تَوَغَّلَ فِي مَيَادِينِ الْعِلْمِ وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غايتها بِحَسْبِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُنْهِ هُوِيَّتِهِ وَسِرِّ أُلُوهِيَّتِهِ مُحَالٌ. وَآخَرُونَ قَالُوا مَنْ أَدْرَكَ شَيْئًا وَانْحَفَظَ أَثَرُهُ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ ذَلِكَ الشَّيْءَ ثَانِيًا وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا الْمُدْرَكَ الَّذِي أَدْرَكَهُ ثَانِيًا هو الذي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute