بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ،
وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ سُتُورٌ.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: أَنَّ كَلِمَةَ (حَتَّى) لِلْغَايَةِ وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ يَكُونُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا فَقَوْلُهُ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا يَقْتَضِي جَوَازَ الدُّخُولِ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ إِذْنٌ فَمَا قَوْلُكُمْ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْغَايَةَ الِاسْتِئْنَاسَ لَا الِاسْتِئْذَانَ، وَالِاسْتِئْنَاسُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الْإِذْنُ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّا لَمَّا عَلِمْنَا بِالنَّصِّ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَسُوءُهُ، وَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْإِذْنِ، عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْإِذْنُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ كَافِيًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ فَحَظَرَ الدُّخُولَ إِلَّا بِإِذْنٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ مَشْرُوطٌ بِإِبَاحَةِ الدُّخُولِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، فَإِنْ قِيلَ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فَهَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا؟ قُلْنَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ»
وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِذْنَ مَحْذُوفٌ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّ الدُّعَاءَ إِذْنٌ إِذَا جَاءَ مَعَ الرَّسُولِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانٍ ثَانٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ مَنْ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ لَهُ بِإِبَاحَةِ الدُّخُولِ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ.
السُّؤَالُ السَّابِعُ: مَا حُكْمُ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى دَارِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَوْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ فَهِيَ هَدَرٌ، وَتَمَسَّكَ بِمَا
رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: «اطَّلَعَ رَجُلٌ فِي حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ لَطَعَنْتُ بِهَا فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ قَبْلَ النَّظَرِ»
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنِ/ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ بغير إذنهم ففقؤوا عَيْنَهُ فَقَدْ هُدِرَتْ عَيْنُهُ»
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: هَذَا الْخَبَرُ يُرَدُّ لِوُرُودِهِ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ كَانَ ضَامِنًا وَكَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إِنْ كَانَ عَامِدًا وَالْأَرْشُ إِنْ كَانَ مُخْطِئًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدَّاخِلَ قَدِ اطَّلَعَ وَزَادَ عَلَى الِاطِّلَاعِ، فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مُخَالِفٌ لِمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ، فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ: مَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ وَنَظَرَ إِلَى حَرَمِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَمُونِعَ فَلَمْ يَمْتَنِعْ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ فِي حَالِ الْمُمَانَعَةِ فَهِيَ هَدَرٌ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا النَّظَرُ وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ مُمَانَعَةٌ وَلَا نَهْيٌ، ثُمَّ جَاءَ إِنْسَانٌ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَهَذَا جَانٍ يَلْزَمُهُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ لظاهر قوله تعالى: الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الْمَائِدَةِ: ٤٥] وَاعْلَمْ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ فِي هَذِهِ المسألة ضَعِيفٌ، لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْعَيْنُ مُسْتَحَقَّةً، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَمْ يَلْزَمِ الْقِصَاصُ، فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّ مَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ إِنْسَانٍ لَمْ تَكُنْ عَيْنُهُ مُسْتَحَقَّةً؟ وَهَذَا أَوَّلُ المسألة.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَوْ دَخَلَ لَمْ يَجُزْ فَقْءُ عَيْنِهِ، فَكَذَا إِذَا نَظَرَ قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ عَلِمَ الْقَوْمُ دُخُولَهُ عَلَيْهِمْ فَاحْتَرَزُوا عَنْهُ وَتَسَتَّرُوا، فَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فَقَدْ لَا يَكُونُونَ عَالِمِينَ بِذَلِكَ فَيَطَّلِعُ مِنْهُمْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، فَلَا يَبْعُدُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ يُبَالِغَ هَاهُنَا فِي الزَّجْرِ حَسْمًا لِبَابِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَرَدُّ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ غَيْرُ جَائِزٍ.
السُّؤَالُ الثَّامِنُ: لَمَّا بَيَّنْتُمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فَهَلْ يَكْفِي الْإِذْنُ كَيْفَ كَانَ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ إِذْنٍ مَخْصُوصٍ؟