للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ، وَأَمَّا آخِرُ الْآيَةِ فَهُوَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ قِصَّةَ الذَّبِيحِ قَالَ بَعْدَهُ: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ بَشَّرَهُ بِكَوْنِهِ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ عَقِيبَ حِكَايَةِ تِلْكَ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَشَّرَهُ بِهَذِهِ النُّبُوَّةِ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَحَمَّلَ هَذِهِ الشَّدَائِدَ فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآخِرَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إسحاق عليه السلام.

الحجة السابعة: عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مَا اشْتَهَرَ مِنْ كِتَابِ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلَ نَبِيِّ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَانَ الزَّجَّاجُ يَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا الذَّبِيحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا اخْتِلَافُهُمْ فِي مَوْضِعِ الذَّبْحِ فَالَّذِينَ قَالُوا الذَّبِيحُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ قَالُوا كَانَ الذَّبْحُ بِمِنًى، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ إِسْحَاقُ قَالُوا هُوَ بِالشَّامِ وَقِيلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْمُورًا بِهَذَا بِمَا رَأَى، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مُفَرَّعٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ حُضُورِ مُدَّةِ الِامْتِثَالِ فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ يَجُوزُ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَهُ بِالذَّبْحِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَسَخَ هَذَا التَّكْلِيفَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَهُ بِالذَّبْحِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ شَرِيفَةٌ مِنْ مَسَائِلِ بَابِ النَّسْخِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ مَجِيءِ مُدَّةِ الِامْتِثَالِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَسَخَهُ عَنْهُ قَبْلَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِوَلَدِهِ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَقَالَ الْوَلَدُ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْمُورًا بِمُقِدِّمَاتِ الذَّبْحِ لَا بِنَفْسِ الذَّبْحِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ وَأَدْخَلَهَا فِي الْوُجُودِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ أُمِرَ بِشَيْءٍ وَقَدْ أَتَى بِهِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْفِدَاءِ، لَكِنَّهُ احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ بِدَلِيلِ قوله تعالى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَتَى بِكُلِّ مُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَمَرَهُ بِنَفْسِ الذَّبْحِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ الْحُكْمَ قَبْلَ إِثْبَاتِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا أَتَى بِالذَّبْحِ وَإِنَّمَا أَتَى بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ به بدليل قوله تعالى: وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَهُ فِي الْمَنَامِ بِمُقُدِّمَاتِ الذَّبْحِ لَا بِنَفْسِ الذَّبْحِ وَتِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ عِبَارَةٌ عَنْ إِضْجَاعِهِ وَوَضْعِ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِهِ، وَالْعَزْمِ الصَّحِيحِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ إِنْ وَرَدَ الْأَمْرُ الثَّانِي: الذَّبْحُ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ فَلَعَلَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطَعَ الْحُلْقُومَ إِلَّا أَنَّهُ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا أَعَادَ اللَّهُ التَّأْلِيفَ إِلَيْهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَحْصُلِ الْمَوْتُ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ تَعْوِيلُ الْقَوْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَمَرَ شَخْصًا مُعَيَّنًا بِإِيقَاعِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيقَاعَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَسَنٌ، فَإِذَا أَنْهَاهُ عَنْهُ فَذَلِكَ النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيقَاعَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَبِيحٌ، فَلَوْ حَصَلَ هَذَا النَّهْيُ عَقِيبَ ذَلِكَ الْأَمْرِ لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنْ كَانَ عَالِمًا بِحَالِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَبِيحِ أَوْ نَهْيٌ عَنِ الْحَسَنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ لَزِمَ جَهْلُ اللَّهِ تَعَالَى الْحَسَنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ لَزِمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>