الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنْ خَرَجْنَا مِنَ الْبَحْرِ سَالِمِينَ أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِكِتَابٍ بَيِّنٍ لَكُمْ فِيهِ مَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَمَّا جَاوَزَ مُوسَى الْبَحْرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالُوا: يَا مُوسَى ائْتِنَا بِذَلِكَ الْكِتَابِ الْمَوْعُودِ فَذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ وَوَعَدَهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الْأَعْرَافِ: ١٤٢] وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ هَارُونَ وَمَكَثَ عَلَى الطُّورِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَأَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ عَلَيْهِ فِي الْأَلْوَاحِ، وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ زَبَرْجَدٍ فَقَرَّبَهُ الرَّبُّ نَجِيًّا وَكَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَأَسْمَعَهُ صَرِيرَ الْقَلَمِ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا فِي الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى هَبَطَ مِنَ الطُّورِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: إِنَّمَا قَالَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لِأَنَّ الشُّهُورَ تَبْدَأُ مِنَ اللَّيَالِي.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مَعْنَاهُ وَاعَدْنَا مُوسَى انْقِضَاءَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً كَقَوْلِهِمْ: الْيَوْمُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُنْذُ خَرَجَ فُلَانٌ، أَيْ تَمَامُ الْأَرْبَعِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَمَا فِي قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: ٨٢] وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْمُرَادُ انْقِضَاءَ أَيِّ أَرْبَعِينَ كَانَ، بَلْ أَرْبَعِينَ مُعَيَّنًا وَهُوَ الثَّلَاثُونَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَالْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ هَذِهِ الْأَرْبَعُونَ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ وَعَدَ قَبْلَ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ أَنْ يَجِيءَ إِلَى الْجَبَلِ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَنْزِلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يَجِيءَ إِلَى الْجَبَلِ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ وَوَعَدَ بِأَنَّهُ سَتَنْزِلُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْرَاةُ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي هُوَ الْمُتَأَيِّدُ بِالْأَخْبَارِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ هَاهُنَا: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يُفِيدُ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ كَانَتْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَقَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ يُفِيدُ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى الثَّلَاثِينَ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ أَجَابَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ وَعْدَهُ كَانَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَدَهُ بِعَشْرٍ لَكِنَّهُ وَعَدَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَمِيعًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الْبَقَرَةِ: ١٩٦] .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: إِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَةَ (ثُمَّ) لِأَنَّهُ تعالى لما وَعَدَ مُوسَى حُضُورَ الْمِيقَاتِ لِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ السَّبْعِينَ وَأَظْهَرَ فِي ذَلِكَ دَرَجَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَضِيلَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْحَاضِرِينَ عَلَى عُلُوِّ دَرَجَتِهِمْ وَتَعْرِيفًا لِلْغَائِبِينَ وَتَكْمِلَةً لِلدِّينِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ فَلَمَّا أَتَوْا عَقِيبَ ذَلِكَ بِأَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ كَانَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ التَّعَجُّبِ فَهُوَ كَمَنْ يَقُولُ إِنَّنِي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَفَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِنَّكَ تَقْصِدُنِي بِالسُّوءِ وَالْإِيذَاءِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَوَعَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٤٢] ، فَلَمَّا ذَهَبَ مُوسَى إِلَى الطُّورِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الثِّيَابُ وَالْحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعَارُوهُ مِنَ الْقِبْطِ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ إِنَّ هَذِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute