الثِّيَابَ وَالْحُلِيَّ لَا تَحِلُّ لَكُمْ فَأَحْرِقُوهَا فَجَمَعُوا نَارًا وَأَحْرَقُوهَا، وَكَانَ السَّامِرِيُّ فِي مَسِيرِهِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ نَظَرَ إِلَى حَافِرِ دَابَّةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ تَقَدَّمَ عَلَى فِرْعَوْنَ فِي دُخُولِ الْبَحْرِ فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ حَافِرِ تِلْكَ الدَّابَّةِ، ثُمَّ إِنَّ السَّامِرِيَّ أَخَذَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَصَوَّرَ مِنْهُ عِجْلًا وَأَلْقَى ذَلِكَ التُّرَابَ فِيهِ فَخَرَجَ مِنْهُ صَوْتٌ كَأَنَّهُ الْخُوَارُ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طَهَ: ٨٨] ، فَاتَّخَذَهُ الْقَوْمُ إِلَهًا لِأَنْفُسِهِمْ فَهَذَا مَا فِي الرِّوَايَةِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْجَمْعُ الْعَظِيمُ مِنَ الْعُقَلَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ كَذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ أَنَّ الصَّنَمَ الْمُتَّخَذَ مِنَ الذَّهَبِ الَّذِي لَا يَتَحَرَّكُ وَلَا يَحُسُّ وَلَا يَعْقِلُ يَسْتَحِيلُ أَنَّ يكون إله السموات والأرض، وهب أنه ظهر منه خُوَارٍ وَلَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً فِي قَلْبِ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ شَاهَدُوا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي تَكُونُ قَرِيبَةً مِنْ حَدِّ الْإِلْجَاءِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّانِعِ وَصِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمَعَ قُوَّةِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَبُلُوغِهَا إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ وَمَعَ أَنَّ صُدُورَ الْخُوَارِ مِنْ ذَلِكَ الْعِجْلِ الْمُتَّخَذِ مِنَ الذَّهَبِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْتَضِيَ شُبْهَةً فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْمُصَوِّتِ إِلَهًا. وَالْجَوَابُ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ أَلْقَى إِلَى الْقَوْمِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا قَدَرَ عَلَى مَا أَتَى بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَّخِذُ طَلْسَمَاتٍ عَلَى قُوَى فَلَكِيَّةٍ وَكَانَ يَقْدِرُ بِوَاسِطَتِهَا عَلَى هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ، فَقَالَ السَّامِرِيُّ لِلْقَوْمِ: وَأَنَا أَتَّخِذُ لَكُمْ طَلْسَمًا مِثْلَ طَلْسَمِهِ وَرَوَّحَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنْ جَعْلَهُ بِحَيْثُ خَرَجَ مِنْهُ صَوْتٌ عَجِيبٌ فَأَطْمَعَهُمْ فِي أَنْ يَصِيرُوا مِثْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْخَوَارِقِ، أَوْ لَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُجَسِّمَةً وَحُلُولِيَّةً فَجَوَّزُوا حُلُولَ الْإِلَهِ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ فَلِذَلِكَ وَقَعُوا فِي تِلْكَ الشُّبْهَةِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ فِيهَا فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْأُمَمِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ الْيَهُودَ مَعَ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا تِلْكَ الْبَرَاهِينَ الْقَاهِرَةَ اغْتَرُّوا بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ الرَّكِيكَةِ جِدًّا، وَأَمَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْقُرْآنِ/ مُعْجِزًا إِلَى الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ لَمْ يَغْتَرُّوا بِالشُّبَهَاتِ الْقَوِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ وَأَكْمَلُ عَقْلًا وَأَزْكَى خَاطِرًا مِنْهُمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ استفادها من الوحي. وَثَالِثُهَا: فِيهِ تَحْذِيرٌ عَظِيمٌ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالْجَهْلِ بِالدَّلَائِلِ فَإِنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ لَوْ أَنَّهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ بِالدَّلِيلِ مَعْرِفَةً تَامَّةً لَمَا وَقَعُوا فِي شُبْهَةِ السَّامِرِيِّ. وَرَابِعُهَا: فِي تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ يُشَاهِدُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْخِلَافِ عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا صَبَرَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ النَّكِدَةِ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ خَلَّصَهُمُ اللَّهُ مِنْ فرعون وأراهم المعجزات العجيبة من أول ظهر وموسى إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ اغْتَرُّوا بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ الرَّكِيكَةِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَأَنْ يَصْبِرَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَذِيَّةِ قَوْمِهِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. وَخَامِسُهَا: أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ مُجَادَلَةً مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَاوَةً لَهُ هُمُ الْيَهُودُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَفْتَخِرُونَ بِأَسْلَافِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ أَسْلَافَهُمْ كَانُوا فِي الْبَلَادَةِ وَالْجَهَالَةِ وَالْعِنَادِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَكَيْفَ هَؤُلَاءِ الْأَخْلَافُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ الظُّلْمِ وَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الظُّلْمُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ النَّقْصُ، قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute