للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اللَّهُ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْفِ: ٣٣] ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا عِبَادَةَ الْخَالِقِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ فَقَدْ صَارُوا نَاقِصِينِ فِي خَيْرَاتِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الظُّلْمَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّرَرِ الْخَالِي مِنْ نَفْعٍ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ أَعْظَمَ مِنْهُ وَالِاسْتِحْقَاقِ عَنِ الْغَيْرِ فِي عِلْمِهِ أَوْ ظَنِّهِ، فَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ فَاعِلُهُ ظَالِمًا ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا فَعَلَ مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْعِقَابِ وَالنَّارِ قِيلَ: إِنَّهُ ظَالِمٌ نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ نَفْعًا وَلَذَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣] ، وَقَالَ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: ٣٢] وَلَمَّا كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكًا وَكَانَ الشِّرْكُ مُؤَدِّيًا إِلَى النَّارِ سُمِّيَ ظُلْمًا.

الْبَحْثُ الثَّانِي: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ إِلَّا مَنْ فَعَلَهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِهَا لَأَنَّ الطَّاعَةَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْمُرَادِ. وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ الْعِصْيَانُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَ الذَّمُّ بِسَبَبِهِ يَجْرِي مَجْرَى الذَّمِّ بِسَبَبِ كَوْنِهِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا، وَالْجَوَابُ: هَذَا تَمَسُّكٌ بِفِعْلِ الْمَدْحِ والذم وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ذَلِكَ مِرَارًا.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ ضَرَرَ الْكُفْرِ لَا يَعُودُ إِلَّا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَا اسْتَفَادُوا بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَلَالَ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاسْتِكْمَالِ بِطَاعَةِ الْأَتْقِيَاءِ وَالِانْتِقَاصِ بِمَعْصِيَةِ الْأَشْقِيَاءِ.

/ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ بِسَبَبِ إِتْيَانِكُمْ بِالتَّوْبَةِ وَهِيَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمَا جَازَ عَدُّهُ فِي مَعْرِضِ الْإِنْعَامِ لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْإِنْعَامِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَفْوَ اسْمٌ لِإِسْقَاطِ الْعِقَابِ الْمُسْتَحَقِّ فَأَمَّا إِسْقَاطُ مَا يَجِبُ إِسْقَاطُهُ فَذَاكَ لَا يُسَمَّى عَفْوًا أَلَا تَرَى أَنَّ الظَّالِمَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ تَعْذِيبُ الْمَظْلُومِ، فَإِذَا تُرِكَ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَا يُسَمَّى ذَلِكَ التَّرْكُ عَفْوًا فَكَذَا هَاهُنَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لَا شَكَّ فِي حُصُولِ التَّوْبَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٥٤] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَسْقَطَ عِقَابَ مَنْ يَجُوزُ عِقَابُهُ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَذَلِكَ أَيْضًا خِلَافُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَفَا عَنْ كُفَّارِ قَوْمِ مُوسَى فَلَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ فُسَّاقِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ: خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس كَانَ أَوْلَى.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ «لَعَلَّ» قَدْ تقدم في قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: ١٥٣] [الأعراف: ١٧١] [الْبَقَرَةِ: ٢١، ٣٣] وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الشُّكْرِ وَمَاهِيَّتِهِ فَطَوِيلٌ وَسَيَجِيءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا عَفَا عَنْهُمْ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ لِكَيْ يَشْكُرُوا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ إِلَّا الشُّكْرَ، وَالْجَوَابُ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمُ الشُّكْرَ لَأَرَادَ ذَلِكَ إِمَّا بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُلَ لِلشَّاكِرِ دَاعِيَةُ الشُّكْرِ أَوَّلًا بِهَذَا الشَّرْطِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ بِهَذَا الشرط كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مِنَ الْعَبْدِ لَزِمَ افْتِقَارُ الدَّاعِيَةِ إِلَى دَاعِيَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ فَحَيْثُ خَلَقَ اللَّهُ الدَّاعِيَ حَصَلَ الشُّكْرُ لَا مَحَالَةَ وَحَيْثُ لَمْ يَخْلُقِ الدَّاعِيَ اسْتَحَالَ حُصُولُ الشُّكْرِ، وَذَلِكَ ضِدُّ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ أَرَادَ حُصُولَ الشُّكْرِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ فَقَدْ أَرَادَ مِنْهُ الْمُحَالَ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِي مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْكَالَ وَارِدٌ عليهم أيضاً والله أعلم.