وَقَوْلُهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا مُشْعِرٌ بِالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ.
ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ، قَالُوا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالثَّنَاءِ وَالتَّقْدِيسِ اشْتَغَلُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لِغَيْرِهِمْ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَغْنُونَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِأَنْفُسِهِمْ إِذْ لَوْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ لَقَدَّمُوا الِاسْتِغْفَارَ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِغَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ»
وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: ١٩] فَأَمَرَ مُحَمَّدًا أَنْ يَذْكُرَ أَوَّلًا الِاسْتِغْفَارَ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ بَعْدَهُ يَذْكُرُ الِاسْتِغْفَارَ لِغَيْرِهِ، وَحَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [نُوحٍ: ٢٨] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الِاسْتِغْفَارَ لِنَفْسِهِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِغَيْرِهِ، فَالْمَلَائِكَةُ لَوْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لَكَانَ اشْتِغَالُهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَنْفُسِهِمْ مُقَدَّمًا عَلَى اشْتِغَالِهِمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِغَيْرِهِمْ، وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمُ اسْتِغْفَارَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ، وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَدْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلى استغفار بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَأْثِيرَ الشَّفَاعَةِ فِي حُصُولِ زِيَادَةِ الثَّوَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ قَالَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْكُفْرِ سَوَاءٌ كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْفِسْقِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُتَّبِعًا سَبِيلَ رَبِّهِ وَلَا يُطْلَقُ ذَلِكَ فِيهِ، وَأَيْضًا إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُونَ وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالْفَاسِقِينَ، لِأَنَّ خُصُومَنَا لَا يَقْطَعُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُمُ الْجَنَّةَ وَإِنَّمَا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ لا يتناول إِلَّا أَهْلَ الطَّاعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ شَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ كَذَلِكَ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى حصول الشفاعة من الملائكة المذنبين، فَنُبَيِّنُ هَذَا ثُمَّ نُجِيبُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْكَعْبِيُّ، أَمَّا بَيَانُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ/ آمَنُوا وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَالْمَغْفِرَةُ لَا تُذْكَرُ إِلَّا فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ. أَمَّا طَلَبُ النَّفْعِ الزَّائِدِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى اسْتِغْفَارًا الثَّانِي:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِكُلِّ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ وَجَبَ دُخُولُهُ تَحْتَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ تَابُوا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِسْقَاطَ عُقُوبَةِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ عِنْدَ الْخَصْمِ، وَمَا كَانَ فِعْلُهُ وَاجِبًا كَانَ طَلَبُهُ بِالدُّعَاءِ قَبِيحًا، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِسْقَاطَ عُقُوبَةِ الصَّغَائِرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا وَاجِبٌ فَلَا يَحْسُنُ طَلَبُهُ بِالدُّعَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ طَلَبَ زِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ عَلَى الثَّوَابِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى مَغْفِرَةً، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا إِلَّا عَلَى إِسْقَاطِ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ، أَمَّا الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِهِ الْكَعْبِيُّ وَهُوَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ لِلَّذِينِ تَابُوا، فَنَقُولُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ تَابُوا عَنِ الْكُفْرِ وَاتَّبَعُوا سَبِيلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute