للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ إِنَّ التَّائِبَ عَنِ الْكُفْرِ الْمُصِرِّ عَلَى الْفِسْقِ لَا يُسَمَّى تَائِبًا وَلَا مُتَّبِعًا سَبِيلَ اللَّهِ، قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ قَوْلَهُ، بَلْ يُقَالُ إِنَّهُ تَائِبٌ عَنِ الْكُفْرِ وَتَابِعٌ سَبِيلَ اللَّهِ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَائِبٌ عَنِ الْكُفْرِ ثَبَتَ أَنَّهُ تَائِبٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ ضَارِبًا وَضَاحِكًا صُدُورُ الضَّرْبِ وَالضَّحِكِ عَنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى صُدُورِ كُلِّ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ وَالضَّحِكِ عَنْهُ «١» فَكَذَا هَاهُنَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: إِنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ الصَّادِرَةَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ فِي حَقِّ الْبَشَرِ تَجْرِي مجرى اعتذار عن ذلة سَبَقَتْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي أَوَّلِ تَخْلِيقِ الْبَشَرِ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [الْبَقَرَةِ: ٣٠] فَلَمَّا سَبَقَ مِنْهُمْ هَذَا الْكَلَامُ تَدَارَكُوا فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِأَنْ قَالُوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ آذَى غَيْرَهُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْبُرَ ذَلِكَ الْإِيذَاءَ بِإِيصَالِ نَفْعٍ عَلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ تَابُوا، بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارِ، فَحَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الأولى: أن الدعاء في أكثر الأمر مَذْكُورٌ بِلَفْظِ رَبَّنا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِنْدَ الدُّعَاءِ قَالُوا رَبَّنا بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣] وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هُودٍ: ٤٧] وَقَالَ أَيْضًا: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نُوحٍ: ٥] وَقَالَ أَيْضًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [نُوحٍ: ٢٨] وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠] وَقَالَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إِبْرَاهِيمَ: ٤١] وَقَالَ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٨] وَقَالَ عَنْ يُوسُفَ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ [يُوسُفَ: ١٠١] وَقَالَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] وَقَالَ فِي قِصَّةِ الْوَكْزِ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي/ فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [الْقَصَصِ: ١٦، ١٧] وَحَكَى تَعَالَى عَنْ دَاوُدَ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: ٢٤] وَعَنْ سُلَيْمَانَ إِنَّهُ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً [ص: ٣٥] وعن ذكريا أَنَّهُ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مَرْيَمَ: ٣] وَعَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [الْمَائِدَةِ: ١١٤] وَعَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قَالَ لَهُ: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٧] وَحَكَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١] وَأَعَادُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَحَكَى أَيْضًا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٥] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَرْضَى الدُّعَاءِ أَنْ يُنَادِي الْعَبْدُ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ يَا رَبِّ وَتَمَامُ الْإِشْكَالِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لَفْظُ اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ لَفْظِ الرَّبُّ، فَلِمَ صَارَ لَفْظُ الرَّبِّ مُخْتَصًّا بِوَقْتِ الدُّعَاءِ؟، وَالْجَوَابُ كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: كُنْتُ في كتم


(١) لعل الأنسب أن يقال: ولا يتوقف على تكرار الضرب والضحك منه في جميع الأوقات لأن الضرب والضحك ليست لها أنواع.

<<  <  ج: ص:  >  >>