وَاعْلَمْ أَنَّ الْآزِفَةَ نَعْتٌ لِمَحْذُوفٍ مُؤَنَّثٍ عَلَى تَقْدِيرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْآزِفَةَ أَوْ يَوْمَ الْمُجَازَاةَ الْآزِفَةَ قَالَ الْقَفَّالُ:
وَأَسْمَاءُ الْقِيَامَةِ تَجْرِي عَلَى التَّأْنِيثِ كَالطَّامَّةِ وَالْحَاقَّةِ وَنَحْوِهَا كَأَنَّهَا يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى الدَّاهِيَةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِيَوْمِ الْآزِفَةِ وَقْتُ الْآزِفَةِ وَهِيَ مُسَارَعَتُهُمْ إِلَى دُخُولِ النَّارِ، فَإِنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَرْتَفِعُ قُلُوبُهُمْ عَنْ مَقَارِّهَا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ يَوْمُ الْآزِفَةِ يَوْمُ الْمَنِيَّةِ وَحُضُورِ الْأَجَلِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ يوم القيامة بأنه يوم التلاق، ويَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْيَوْمُ غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَيْضًا هَذِهِ الصِّفَةُ مَخْصُوصَةٌ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ بِيَوْمِ الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا/ بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٨٣، ٨٤] وَقَالَ: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [الْقِيَامَةِ: ٢٦] وَأَيْضًا فَوَصْفُ يَوْمِ الْمَوْتِ بِالْقُرْبِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالْقُرْبِ، وَأَيْضًا الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ الْآزِفَةِ لَائِقَةٌ بِيَوْمِ حُضُورِ الْمَوْتِ لِأَنَّ الرَّجُلَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ يَعْظُمُ خَوْفُهُ، فَكَأَنَّ قُلُوبَهُمْ تَبْلُغُ حَنَاجِرَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَيَبْقَوْا كَاظِمِينَ سَاكِتِينَ عَنْ ذِكْرِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ حَمِيمٌ وَلَا شَفِيعٌ يَدْفَعُ مَا بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَوْفِ وَالْقَلَقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، قِيلَ الْمُرَادُ وَصْفُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِشِدَّةِ الْخَوْفَ وَالْفَزَعِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الْأَحْزَابِ: ١٠] وَقَالَ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ [الواقعة: ٨٣، ٨٤] وَقِيلَ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، قَالَ الْحَسَنُ: الْقُلُوبُ انْتُزِعَتْ مِنَ الصُّدُورِ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ فَلَا تَخْرُجُ فَيَمُوتُوا وَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَوَاضِعِهَا فَيَتَنَفَّسُوا وَيَتَرَوَّحُوا وَلَكِنَّهَا مَقْبُوضَةٌ كَالسِّجَالِ كَمَا قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْمُلْكِ: ٢٧] وَقَوْلُهُ كاظِمِينَ أَيْ مَكْرُوبِينَ وَالْكَاظِمُ السَّاكِتُ حَالَ امْتِلَائِهِ غَمًّا وَغَيْظًا فَإِنْ قِيلَ بِمَ انْتَصَبَ كاظِمِينَ قُلْنَا هُوَ حَالُ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمُرَادَ إِذْ قُلُوبُهُمْ لَدَى الْحَنَاجِرِ حَالَ كَاظِمِينَ كونهم ويجوز أيضا أن يكون حال عَنِ الْقُلُوبِ، وَأَنَّ الْقُلُوبَ كَاظِمَةٌ عَلَى غَمٍّ وَكَرْبٍ فِيهَا مَعَ بُلُوغِهَا الْحَنَاجِرَ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْكَاظِمَةِ جَمْعَ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالْكَظْمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ كَمَا قَالَ: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُفَ: ٤] وَقَالَ:
فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٤] وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ كَاظِمُونَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَقْرِيرُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْخَوْفُ الشَّدِيدُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ، وَالثَّانِي: الْعَجْزُ عَنِ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ كاظِمِينَ فَإِنَّ الْمَلْهُوفَ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْكَلَامِ حَصَلَتْ لَهُ خَفْقَةٌ وَسُكُونٌ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ وَبَثِّ الشَّكْوَى عَظُمَ قَلَقُهُ وَقَوِيَ خَوْفُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ قَالُوا نَفَى حُصُولَ شفيع لهم يطاع فوجب أن لا تحصل لَهُمْ هَذَا الشَّفِيعُ أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ شَفِيعٌ يُطَاعُ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّفِيعِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ مَا عِنْدِي كِتَابٌ يُبَاعُ فَهَذَا يَقْتَضِي نَفْيَ كِتَابٍ يُبَاعُ وَلَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْكِتَابِ وَقَالَتِ الْعَرَبُ:
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ
وَلَفْظُ الطَّاعَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَرْتَبَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعٌ يُطِيعُهُ اللَّهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute