للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَزَالُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ فِيهِ مُتَكَامِلَةٌ مُتَزَايِدَةٌ، وَعِنْدَ انْتِهَاءِ السَّابُوعِ الرَّابِعِ نِهَايَةً أَنْ لَا يَظْهَرَ الِازْدِيَادُ، أَمَّا مُدَّةُ سِنِّ الشَّبَابِ وَهِيَ مُدَّةُ الوقوف السابوع وَاحِدٌ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ إِمَّا قَدْ تَزْدَادُ، وَإِمَّا قَدْ تَنْقُصُ بِحَسَبِ الْأَمْزِجَةِ جَعَلَ الْغَايَةَ فِيهِ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَهَذَا هُوَ السِّنُّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْكَمَالُ اللَّائِقُ بِالْإِنْسَانِ شَرْعًا وَطِبًّا، فَإِنَّ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَسْكُنُ أَفْعَالُ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ بَعْضَ السُّكُونِ وَتَنْتَهِي لَهُ أَفْعَالُ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ غَايَتُهَا، وَتَبْتَدِئُ أَفْعَالُ الْقُوَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ بِالْقُوَّةِ وَالْكَمَالِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ ظَهَرَ لَكَ أَنَّ بُلُوغَ الْإِنْسَانِ وَقْتَ الْأَشُدِّ شَيْءٌ وَبُلُوغَهُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ شَيْءٌ آخَرَ، فَإِنَّ بُلُوغَهُ إِلَى وَقْتِ الْأَشُدِّ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى آخِرِ سِنِّ النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ، وَأَنَّ بُلُوغَهُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى آخِرِ مُدَّةِ الشَّبَابِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ تَأْخُذُ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ فِي الِانْتِقَاصِ، وَتَأْخُذُ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنُّطْقِيَّةُ فِي الِاسْتِكْمَالِ وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ الْبَدَنِ، فَإِنَّ الْبَدَنَ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ يَأْخُذُ فِي الِانْتِقَاصِ، وَالنَّفْسُ مِنْ وَقْتِ الْأَرْبَعِينَ تَأْخُذُ فِي الِاسْتِكْمَالِ، وَلَوْ كَانَتِ النَّفْسُ عَيْنَ الْبَدَنِ لَحَصَلَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ الْكَمَالُ وَالنُّقْصَانُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَلَخَّصْنَاهُ مَذْكُورٌ فِي صَرِيحِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ تَنْتَهِي الْكِمَالَاتُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَأَمَّا الْكَمَالَاتُ الْحَاصِلَةُ بِحَسَبِ الْقُوَى النُّطْقِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّهَا تَبْتَدِئُ بِالِاسْتِكْمَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَ الْإِنْسَانِ إِلَى عَالِمِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِاشْتِغَالِ بِطَاعَةِ اللَّهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْقُوَّةَ النَّفْسَانِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ النُّطْقِيَّةَ إِنَّمَا تَبْتَدِئُ بِالِاسْتِكْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ فَسُبْحَانَ مَنْ أَوْدَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ هَذِهِ الْأَسْرَارَ الشَّرِيفَةَ الْمُقَدَّسَةَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقُولُ هَذَا مُشْكِلٌ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ/ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ مَا جَاءَهُ الْوَحْيُ إِلَّا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ، وَهَكَذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي حَقِّ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ إِلَى تَمَامِ الدُّعَاءِ،

وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يُؤْمَرُ الْحَافِظَانِ أَنِ ارْفِقَا بِعَبْدِي مِنْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ قِيلَ احْفَظَا وَحَقِّقَا» فَكَانَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثَ إِذَا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بَكَى حَتَّى تَبْتَلَّ لِحْيَتُهُ رَوَاهُ الْقَاضِي فِي «التَّفْسِيرِ» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كَالْمُحْتَاجِ إِلَى مُرَاعَاةِ الْوَالِدَيْنِ لَهُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ كَالنَّاقِصِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِعَايَةِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ نِعَمَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ تَمْتَدُّ إِلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِعَمَ الْوَالِدَيْنِ كَأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ وُسْعِ الْإِنْسَانِ مُكَافَأَتُهُمَا إِلَّا بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْمٍ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُفَسِّرِينَ وَمُتَقَدِّمِيهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَقَّتَ الْحَمْلَ وَالْفِصَالَ هاهنا بِمِقْدَارٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ يَنْقُصُ وَقَدْ يَزِيدُ عَنْهُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ شَخْصًا وَاحِدًا حَتَّى يُقَالَ إِنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ كَانَ حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ هَذَا الْقَدْرَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ إِنْسَانٍ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>