هَذِهِ الْآيَةِ إِنْسَانًا مُعَيَّنًا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَقَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي قَرِيبٍ مِنْ هَذَا السِّنِّ، لِأَنَّهُ كَانَ أَقَلَّ سِنًّا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ وَشَيْءٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَرِيبًا مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَهُوَ قَدْ صَدَّقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ صَالِحَةٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَوْلُ بِهَذِهِ الصَّلَاحِيَّةِ فَنَقُولُ: نَدَّعِي أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَفْضَلُ الْخَلْقِ لِأَنَّ الَّذِي يَتَقَبَّلُ اللَّهُ عَنْهُ أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ كُلِّ سَيِّئَاتِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَفَاضِلِ الْخَلْقِ وَأَكَابِرِهِمْ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْخَلْقِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَإِمَّا عَلَيٌّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا تَلِيقُ بِمَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ وَعِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، وَعَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا آمَنَ فِي زَمَانِ الصِّبَا أَوْ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الصِّبَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْزِعْنِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ أَلْهِمْنِي، قَالَ صَاحِبُ «الصِّحَاحِ» أَوْزَعْتُهُ بِالشَّيْءِ أَغْرَيْتُهُ بِهِ فَأَوْزِعُ بِهِ فَهُوَ مُوزَعٌ بِهِ أَيْ مُغْرًى بِهِ، وَاسْتَوْزَعْتُ اللَّهَ شُكْرَهُ، فَأَوْزَعَنِي أَيِ اسْتَلْهَمْتُهُ فَأَلْهَمَنِي.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذَا الدَّاعِي أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ لِلشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْإِتْيَانِ بِالطَّاعَةِ الْمَرْضِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ الثَّالِثُ: أَنْ يُصْلِحَ لَهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَفِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ ثَلَاثَةٌ أَكْمَلُهَا النَّفْسَانِيَّةُ وَأَوْسَطُهَا الْبَدَنِيَّةُ وَأَدْوَنُهَا الْخَارِجِيَّةُ وَالسَّعَادَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ هِيَ اشْتِغَالُ الْقَلْبِ بِشُكْرِ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَالسَّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ هِيَ اشْتِغَالُ الْبَدَنِ بِالطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ، وَالسَّعَادَاتُ الْخَارِجِيَّةُ هِيَ سَعَادَةُ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمَرَاتِبُ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا جَرَمَ رَتَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: لِرِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الشُّكْرَ عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّ الشُّكْرَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَالْعَمَلَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَشْرَفُ مِنْ عَمَلِ الْجَارِحَةِ، وَأَيْضًا الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ أَحْوَالُ الْقَلْبِ قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] بَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَطْلُوبَةٌ لِأَجْلِ أَنَّهَا تُفِيدُ الذِّكْرَ، فَثَبَتَ أَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَشْرَفُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَالْأَشْرَفُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ فِي الذِّكْرِ، وَأَيْضًا الِاشْتِغَالُ بِالشُّكْرِ اشْتِغَالٌ بِقَضَاءِ حُقُوقِ النِّعَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالطَّاعَةِ الظَّاهِرَةِ اشْتِغَالٌ بِطَلَبِ النِّعَمِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَقَضَاءُ الْحُقُوقِ الْمَاضِيَةِ يَجْرِي مَجْرَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَطَلَبُ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَقْبَلَةِ طَلَبٌ لِلزَّوَائِدِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْمُهِمَّاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قدم الشكر على سائر الطاعات، وأيضا أنه قَدَّمَ طَلَبَ التَّوْفِيقِ عَلَى الشُّكْرِ، وَطَلَبَ التَّوْفِيقِ عَلَى الطَّاعَةِ عَلَى طَلَبِ أَنْ يُصْلِحَ لَهُ ذُرِّيَّتَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ اشْتِغَالٌ بِالتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ اشْتِغَالٌ بِالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْظِيمَ لِأَمْرِ اللَّهِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا إِنَّ الْعَبْدَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُلْهِمَهُ الشُّكْرَ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْأَعْمَالِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِأَفْعَالِهِ لَكَانَ هَذَا الطَّلَبُ عَبَثًا، وَأَيْضًا الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ هُوَ الْإِيمَانُ أَوِ الْإِيمَانُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute