عَلِمْتُ ذَلِكَ امْتَنَعَ إِقْدَامِي عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ نَفْسَ الْهُزْءِ قَدْ يُسَمَّى جَهْلًا وَجَهَالَةً، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: إِنَّ الْجَهْلَ ضِدُّ الْحِلْمِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ ضِدُّ الْعِلْمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ وَقَدْ سَبَقَ تَمَامُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا: (إِنَّا مَعَكُمْ) إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤- ١٥] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبَقَرَةِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ فَأَجَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ أَبْحَاثًا:
الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مُبَيِّنٍ التَّعْيِينَ حَسُنَ مَوْقِعُ سُؤَالِهِمْ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَمَّا كَانَ مُجْمَلًا حَسُنَ الِاسْتِفْسَارُ وَالِاسْتِعْلَامُ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْعُمُومِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ مَا الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا الِاسْتِفْسَارِ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَةَ وَضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا صَارَ حَيًّا تَعَجَّبُوا مِنْ أَمْرِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ، وَظَنُّوا أَنَّ تِلْكَ الْبَقَرَةَ الَّتِي يَكُونُ لَهَا مِثْلُ هَذِهِ الْخَاصَّةِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَقَرَةً مُعَيَّنَةً، فَلَا جَرَمَ اسْتَقْصُوا فِي السُّؤَالِ عَنْ وَصْفِهَا كَعَصَا مُوسَى الْمَخْصُوصَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعِصِيِّ بِتِلْكَ الْخَوَاصِّ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْعَجِيبَةَ مَا كَانَتْ خَاصِّيَّةَ الْبَقَرَةِ، بَلْ كَانَتْ مُعْجِزَةً يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا بَقَرَةً، أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، إِلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ خَافَ مِنَ الْفَضِيحَةِ، فَأَلْقَى الشُّبْهَةَ فِي التَّبْيِينِ وَقَالَ الْمَأْمُورُ بِهِ بَقَرَةٌ مُعَيَّنَةٌ لا مطلق البقرة، لما وقعت الْمُنَازَعَةِ فِيهِ، رَجَعُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْخِطَابَ الْأَوَّلَ وَإِنْ أَفَادَ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا الِاحْتِيَاطَ فِيهِ، فَسَأَلُوا طَلَبًا لِمَزِيدِ الْبَيَانِ وَإِزَالَةً لِسَائِرِ الِاحْتِمَالَاتِ، إِلَّا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَغَيَّرَتْ وَاقْتَضَتِ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ سُؤَالَ «مَا هِيَ» طَلَبٌ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ «مَا» سُؤَالٌ، وَ «هِيَ» إِشَارَةٌ إِلَى الْحَقِيقَةِ، فَمَا هِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ طَلَبًا لِلْحَقِيقَةِ وَتَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذِكْرِ أَجْزَائِهَا وَمُقَدِّمَاتِهَا لَا بِذِكْرِ صِفَاتِهَا الْخَارِجَةِ عَنْ مَاهِيَّتِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَصْفَ السِّنِّ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمَاهِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِهَذَا السُّؤَالِ: وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا الْبَقَرُ طَلَبُ مَاهِيَّتِهِ وَشَرْحُ حَقِيقَتِهِ بَلْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ طَلَبَ الصِّفَاتِ الَّتِي بِسَبَبِهَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ الْبَقَرِ عَنْ بَعْضٍ، فَلِهَذَا حَسُنَ ذِكْرُ الصِّفَاتِ الْخَارِجَةِ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْفَارِضُ الْمُسِنَّةُ وَسُمِّيَتْ فَارِضًا لِأَنَّهَا فَرَضَتْ سِنَّهَا، أَيْ قَطَعَتْهَا وَبَلَغَتْ آخِرَهَا، وَالْبِكْرُ: الْفَتِيَّةُ وَالْعَوَانُ النَّصَفُ، قَالَ الْقَاضِي: أَمَّا الْبِكْرُ، فَقِيلَ: إِنَّهَا الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ مَا لَمْ تَلِدْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الَّتِي وَلَدَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، قَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ [الضَّبِّيُّ] : إِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْفَارِضِ أَنَّهَا الْمُسِنَّةُ وَفِي الْبِكْرِ أَنَّهَا الشَّابَّةُ وَهِيَ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ وَمِنَ الْإِبِلِ الَّتِي وَضَعَتْ بَطْنًا وَاحِدًا. قَالَ الْقَفَّالُ: الْبِكْرُ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ لِأَوَّلِ الثَّمَرِ وَمِنْهُ بُكْرَةُ النَّهَارِ وَيُقَالُ: بَكَّرْتُ عَلَيْهِمَا الْبَارِحَةَ إِذَا جَاءَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَكَأَنَّ الْأَظْهَرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute