الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي التَّكْلِيفِ الْوَاقِعِ أَخِيرًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا لِكُلِّ صِفَةٍ تَقَدَّمَتْ حَتَّى تَكُونَ الْبَقَرَةُ مَعَ الصِّفَةِ الْأَخِيرَةِ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ وَصَفْرَاءُ فَاقِعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّمَا يَجِبُ كَوْنُهَا بِالصِّفَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَشْبَهَ بِالرِّوَايَاتِ وَبِطَرِيقَةِ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ تَرَدُّدِ الِامْتِثَالِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَسْهَلَ قَدْ يُنْسَخُ بِالْأَشَقِّ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ وَلَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ فِي شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَهُ أَيْضًا تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّسْخِ هَلْ هُوَ نَسْخٌ أَمْ لَا، وَيَدُلُّ عَلَى حُسْنِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ ثَانِيًا لِمَنْ عَصَى وَلَمْ يَفْعَلْ مَا كُلِّفَ أَوَّلًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ: هُزُواً بِالضَّمِّ وَهُزْؤًا بِسُكُونِ الزَّايِ نَحْوَ كُفُؤًا وَكُفْءً وَقَرَأَ حَفْصٌ: (هُزُوًا) بِالضَّمَّتَيْنِ وَالْوَاوِ وَكَذَلِكَ كُفُوًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالْهُزْءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمَهْزُوءِ بِهِ كَمَا يُقَالُ: كَانَ هَذَا فِي عِلْمِ اللَّهِ أَيْ فِي مَعْلُومِهِ وَاللَّهُ رَجَاؤُنَا أَيْ مَرْجُوُّنَا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٠] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : (أتتخذنا هزؤاً) أَتَجْعَلُنَا مَكَانَ هُزْءٍ أَوْ أَهْلَ هُزْءٍ أَوْ مَهْزُوءًا بِنَا وَالْهُزْءُ نَفْسُهُ فَرْطُ الِاسْتِهْزَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَوْمُ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْيِينَ الْقَاتِلِ فَقَالَ مُوسَى:
اذْبَحُوا بَقَرَةً لَمْ يَعْرِفُوا بَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ وَذَلِكَ السُّؤَالِ مُنَاسَبَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُلَاعِبُهُمْ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَمَا أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَةَ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا فَيَصِيرُ حَيًّا فَلَا جَرَمَ، وَقَعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ مَوْقِعَ الْهُزْءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ إِلَّا أَنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنْ أَنَّ الْقَتِيلَ كَيْفَ يَصِيرُ حَيًّا بِأَنْ يَضْرِبُوهُ بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْبَقَرَةِ فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِهْزَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ كفروا بقولهم لموسى عليه السلام: أتتخذنا هزؤاً لِأَنَّهُمْ إِنْ قَالُوا ذَلِكَ وَشَكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، فَهُوَ كُفْرٌ وَإِنْ شَكُّوا فِي أَنَّ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ جَوَّزُوا الْخِيَانَةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْوَحْيِ، وَذَلِكَ أَيْضًا كُفْرٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُلَاعَبَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ جَائِزَةٌ فَلَعَلَّهُمْ ظَنُّوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُلَاعِبُهُمْ مُلَاعَبَةً حَقَّةً، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أَيْ مَا أَعْجَبَ هَذَا الْجَوَابَ كَأَنَّكَ تَسْتَهْزِئُ بِنَا لَا أَنَّهُمْ حَقَّقُوا عَلَى مُوسَى الِاسْتِهْزَاءَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالِاسْتِهْزَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِسَبَبِ الْجَهْلِ وَمَنْصِبُ النُّبُوَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِقْدَامَ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ، فَلَمْ يَسْتَعِذْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ نَفْسِ الشَّيْءِ الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ كَمَا قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ عِنْدَ مِثْلِ ذَلِكَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَدَمِ الْعَقْلِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مَجَازًا هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَقْوَى. وَثَانِيهَا:
أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِمَا فِي الِاسْتِهْزَاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ مِنَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْعَظِيمِ، فَإِنِّي متى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute