فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَمَكَرُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَزِدْهُ [نوح: ٢١] لِأَنَّ الْمَتْبُوعِينَ هُمُ الَّذِينَ مَكَرُوا وَقَالُوا لِلْأَتْبَاعِ: لَا تَذَرُنَّ، وَجَمْعُ الضَّمِيرِ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قرئ كبارا وكُبَّاراً بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْكَبِيرِ، فَأَوَّلُ الْمَرَاتِبِ الْكَبِيرُ، وَالْأَوْسَطُ الْكُبَارُ بِالتَّخْفِيفِ، وَالنِّهَايَةُ الْكُبَّارُ بِالتَّثْقِيلِ، وَنَظِيرُهُ: جَمِيلٌ وَجُمَالٌ وَجُمَّالٌ، وَعَظِيمٌ وَعُظَامٌ وَعُظَّامٌ، وَطَوِيلٌ وَطُوَالٌ وَطُوَّالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَكْرُ الكبار هو أنهم قالوا لأتباعهم: لا تَذَرُنَّ وَدًّا فَهُمْ مَنَعُوا الْقَوْمَ عَنِ التَّوْحِيدِ، وَأَمَرُوهُمْ بِالشِّرْكِ، وَلَمَّا كَانَ التَّوْحِيدُ أَعْظَمَ الْمَرَاتِبِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْمَنْعُ مِنْهُ أَعْظَمَ الْكَبَائِرِ فَلِهَذَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ كُبَّارٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ فَضَّلَ عِلْمَ الْكَلَامِ عَلَى سَائِرِ الْعُلُومِ، فَقَالَ: الْأَمْرُ بِالشِّرْكِ كُبَّارٌ فِي الْقُبْحِ وَالْخِزْيِ، فَالْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِرْشَادِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُبَّارًا فِي الْخَيْرِ وَالدِّينِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تعالى إنما سماه مكرا لوجهين الأول: لِمَا فِي إِضَافَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْحِيلَةِ الْمُوجِبَةِ لِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى عِبَادَتِهَا، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: هَذِهِ الْأَصْنَامُ آلِهَةٌ لَكُمْ، وَكَانَتْ آلِهَةً لِآبَائِكُمْ، فَلَوْ قَبِلْتُمْ قَوْلَ نُوحٍ لَاعْتَرَفْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ جَاهِلِينَ ضَالِّينَ كَافِرِينَ، وَعَلَى آبَائِكُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ اعْتِرَافُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى جَمِيعِ أَسْلَافِهِ بِالْقُصُورِ وَالنَّقْصِ وَالْجَهْلِ شَاقًّا شَدِيدًا، صَارَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِلَفْظِ آلِهَتِكُمْ صَارِفًا لَهُمْ عَنِ الدِّينِ، فَلِأَجْلِ اشْتِمَالِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ الْخَفِيَّةِ سَمَّى اللَّهُ كَلَامَهُمْ مَكْرًا الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أُولَئِكَ الْمَتْبُوعِينَ أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ وَوَلَدٌ، فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا لِأَتْبَاعِهِمْ:
إِنَّ آلِهَتَكُمْ خَيْرٌ مِنْ إِلَهِ نُوحٍ، لِأَنَّ آلِهَتَكُمْ يُعْطُونَكُمُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ، وَإِلَهُ نُوحٍ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا لِأَنَّهُ فَقِيرٌ، فَبِهَذَا الْمَكْرِ صَرَفُوهُمْ عَنْ طَاعَةِ نُوحٍ، وَهَذَا مِثْلُ مَكْرِ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزُّخْرُفِ: ٥١] وَقَالَ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [الزُّخْرُفِ: ٥٢، ٥٣] .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ الْبَلْخِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَشَبَةَ المنحوتة في هذه الساعة ليست خالقة للسموات وَالْأَرْضِ، وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ دِينٌ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ مَجِيءِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ الدِّينُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَأَكْثَرُ سُكَّانِ أَطْرَافِ الْمَعْمُورَةِ عَلَى هَذَا الدِّينِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الدِّينِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرَفُ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ هَذِهِ الْمُدَّةَ الْمُتَطَاوِلَةَ فِي أَكْثَرِ أَطْرَافِ الْعَالَمِ، فَإِذًا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلذَّاهِبِينَ إِلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ تَأْوِيلَاتٌ أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُنَجِّمُ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ مِنْ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَفِي مَكَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ نُورٌ هُوَ أَعْظَمُ الْأَنْوَارِ، وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ حَافُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ مَكَانُهُ، هُمْ أَنْوَارٌ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ النُّورِ الْأَعْظَمِ، فَالَّذِينَ اعْتَقَدُوا هَذَا الْمَذْهَبَ اتَّخَذُوا صَنَمًا هُوَ أَعْظَمُ الْأَصْنَامِ عَلَى صُورَةِ إِلَهِهِمُ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ، وَاتَّخَذُوا أَصْنَامًا مُتَفَاوِتَةً، بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَالشَّرَفِ وَالْخِسَّةِ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَةِ تِلْكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute