للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَخْصُوصَةً عَلَى أَفْعَالٍ عَجِيبَةٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْقَوْلُ بِالْجِنِّ ظَاهِرَ الِاحْتِمَالِ وَتَكُونُ قُدْرَتُهَا عَلَى التَّشَكُّلِ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ ظَاهِرَةَ الِاحْتِمَالِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْأَجْسَامُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ أَيْضًا فِرْقَتَانِ.

الْفِرْقَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَجُمْهُورِ أَتْبَاعِهِ وَأَدِلَّتُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ ظَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَتِ الْبِنْيَةُ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْحَيَاةَ الْوَاحِدَةَ قَامَتْ بِمَجْمُوعِ الْأَجْزَاءِ أَوْ يُقَالَ: قَامَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ حَيَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ حُلُولَ الْعَرَضِ الْوَاحِدِ فِي الْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي مِنْهَا تَأَلَّفَ الْجِسْمُ مُتَسَاوِيَةٌ وَالْحَيَاةَ الْقَائِمَةَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُسَاوِيَةٌ لِلْحَيَاةِ الْقَائِمَةِ بِالْجُزْءِ الْآخَرِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ، فَلَوِ افْتَقَرَ قِيَامُ الْحَيَاةِ بِهَذَا الْجُزْءِ إِلَى قِيَامِ تِلْكَ الْحَيَاةِ بِذَلِكَ الْجُزْءِ لَحَصَلَ هَذَا الِافْتِقَارُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الدَّوْرِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الِافْتِقَارُ فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّ قِيَامَ الْحَيَاةِ بِهَذَا الْجُزْءِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ بِذَلِكَ الْجُزْءِ الثَّانِي، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا التَّوَقُّفُ ثَبَتَ أَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ مَوْصُوفًا بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَبَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطٌ، قَالُوا: وَأَمَّا دَلِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْبِنْيَةِ فَلَيْسَ إِلَّا الِاسْتِقْرَاءَ وَهُوَ أَنَّا رَأَيْنَا أَنَّهُ مَتَى فَسَدَتِ الْبِنْيَةُ بَطَلَتِ الْحَيَاةُ وَمَتَى لَمْ تَفْسُدْ بَقِيَتِ الْحَيَاةُ فَوَجَبَ تَوَقُّفُ الْحَيَاةِ عَلَى حُصُولِ الْبِنْيَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا رَكِيكٌ، فَإِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْوُجُوبِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حَالَ مَنْ لَمْ يُشَاهَدْ كَحَالِ مَا شُوهِدَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ خَرْقَ الْعَادَاتِ، أَمَّا مَنْ يُجَوِّزُهَا فَهَذَا لَا يَتَمَشَّى عَلَى مَذْهَبِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي جَعْلِ بَعْضِهَا عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ وَجَعْلِ بَعْضِهَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْحَيَاةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عِلْمًا بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَقُدْرَةً/ عَلَى أَشْيَاءَ شَاقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَعِنْدَ هَذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ بِإِمْكَانِ وُجُودِ الْجِنِّ، سَوَاءٌ كَانَتْ أَجْسَامُهُمْ لَطِيفَةً أَوْ كَثِيفَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ أَجَزَاؤُهُمْ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطُ الْحَيَاةِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صَلَابَةٍ فِي الْبِنْيَةِ حَتَّى يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ فَهَهُنَا مَسْأَلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْئِيُّ حَاضِرًا وَالْمَوَانِعُ مُرْتَفِعَةً وَالشَّرَائِطُ مِنَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ حَاصِلَةً، وَتَكُونَ الْحَاسَّةُ سَلِيمَةً، ثُمَّ مَعَ هَذَا لَا يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ أَوْ يَكُونَ هَذَا مُمْتَنِعًا عَقْلًا؟ أَمَّا الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ فَقَدْ جَوَّزُوهُ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ حَكَمُوا بِامْتِنَاعِهِ عَقْلًا، وَالْأَشْعَرِيُّ احْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ، أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَأَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَرَى الْكَبِيرَ مِنَ الْبُعْدِ صَغِيرًا وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّا نَرَى بَعْضَ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْبَعِيدِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ أَنَّ نِسْبَةَ الْحَاسَّةِ وَجَمِيعَ الشَّرَائِطِ إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمَرْئِيَّةِ كَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجْزَاءِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ مَعَ حُصُولِ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَحُضُورِ الْمَرْئِيِّ وَحُصُولِ الشَّرَائِطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ لَا يَكُونُ الْإِدْرَاكُ وَاجِبًا الثَّانِي:

أَنَّ الْجِسْمَ الْكَبِيرَ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَأَلِّفَةِ، فَإِذَا رَأَيْنَا ذَلِكَ الْجِسْمَ الْكَبِيرَ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الْبُعْدِ فَقَدْ رَأَيْنَا تِلْكَ الْأَجْزَاءَ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ هَذَا الْجُزْءِ مَشْرُوطَةً بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْآخَرِ أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَلْزَمُ الدَّوْرُ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ مُتَسَاوِيَةٌ فَلَوِ افْتَقَرَتْ رُؤْيَةُ هَذَا الْجُزْءِ إِلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ الْجُزْءِ لَافْتَقَرَتْ أَيْضًا رُؤْيَةُ ذَلِكَ الْجُزْءِ إِلَى رُؤْيَةِ هَذَا الْجُزْءِ فَيَقَعُ الدَّوْرُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الِافْتِقَارُ فَحِينَئِذٍ رُؤْيَةُ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْمَسَافَةِ تَكُونُ مُمْكِنَةً، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ لَوْ حَصَلَ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ سَائِرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>