للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْجَوَاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يُرَى، فَعَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشَّرَائِطِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بَلْ جَائِزًا، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ عَوَّلُوا عَلَى أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَجَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا طَبْلَاتٌ وَبُوقَاتٌ وَلَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا فَإِذَا عَارَضْنَاهُمْ بِسَائِرِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَقُلْنَا لَهُمْ: فجوزوا أن يقال انقلبت مياه البحار ذهب وفضة، والجبال ياقوتا وزبر جدا، أَوْ حَصَلَتْ فِي السَّمَاءِ حَالُ مَا غَمَضَتِ العين ألف شمس وقمر، ثم كما فُتِحَتِ الْعَيْنُ أَعْدَمَهَا اللَّهُ عَجَزُوا عَنِ الْفَرْقِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا التَّشَوُّشِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةَ نَظَرُوا إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُطَّرِدَةِ فِي مَنَاهِجِ الْعَادَاتِ، فَوَهِمُوا أَنَّ بَعْضَهَا وَاجِبَةٌ، وَبَعْضَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَلَمْ يَجِدُوا قَانُونًا مُسْتَقِيمًا، وَمَأْخَذًا سَلِيمًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَتَشَوَّشَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْكُلِّ، فَيُحْكَمَ عَلَى الْكُلِّ بِالْوُجُوبِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ، أَوْ عَلَى الْكُلِّ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ. فَأَمَّا التَّحَكُّمُ فِي الْفَرْقِ فَهُوَ بَعِيدٌ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ جَوَازُ الْقَوْلِ بِالْجِنِّ، فَإِنَّ أَجْسَامَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً قَوِيَّةً إلا أنه لا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا تَرَاهَا، وَإِنْ كَانُوا حَاضِرِينَ هَذَا عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ فَهَذَا هُوَ تَفْصِيلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَأَنَا مُتَعَجِّبٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ كَيْفَ يُصَدِّقُونَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِثْبَاتِ الْمَلَكِ وَالْجِنِّ مَعَ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ قُوَّةً عَظِيمَةً عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ، وَالْجِنُّ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا فِي الْأَعْضَاءِ الْكَثِيفَةِ الصُّلْبَةِ، / فَإِذًا يَجِبُ فِي الْمَلَكِ وَالْجِنِّ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ حَاضِرُونَ عِنْدَنَا أَبَدًا، وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ وَالْحَفَظَةُ، وَيَحْضُرُونَ أَيْضًا عِنْدَ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ كَانُوا يَحْضُرُونَ عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْقَوْمِ مَا كَانَ يَرَاهُمْ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ الْجَالِسُونَ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ فِي النَّزْعِ لَا يَرَوْنَ أَحَدًا، فَإِنْ وَجَبَتْ رُؤْيَةُ الْكَثِيفِ عِنْدَ الْحُضُورِ فَلِمَ لَا نَرَاهَا وَإِنْ لَمْ تَجِبِ الرُّؤْيَةُ فَقَدْ بَطَلَ مذهبهم، وإن كانوا موصوفون بِالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ مَعَ عَدَمِ الْكَثَافَةِ وَالصَّلَابَةِ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطُ الْحَيَاةِ، وَإِنْ قَالُوا: إِنَّهَا أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ وَحَيَّةٌ، وَلَكِنَّهَا لِلَطَافَتِهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَهَذَا إِنْكَارٌ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَحَالُهُمْ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَلَكِ وَالْجِنِّ مَعَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ عَجِيبٌ، وَلَيْتَهُمْ ذَكَرُوا عَلَى صِحَّةِ مَذَاهِبِهِمْ شُبْهَةً مُخَيَّلَةً فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ مُبِينَةٍ، فَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الدَّقَائِقِ وَالْمُشْكِلَاتِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَلْ رَأَى الْجِنَّ أَمْ لَا؟

فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا رَآهُمْ، قَالَ: إِنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَقْصِدُونَ السَّمَاءَ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ فَيَسْتَمِعُونَ أَخْبَارَ السَّمَاءِ وَيُلْقُونَهَا إِلَى الْكَهَنَةِ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ حُرِسَتِ السَّمَاءُ، وَحِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتِ الشُّهُبُ عَلَيْهِمْ فَرَجَعُوا إِلَى إِبْلِيسَ وَأَخْبَرُوهُ بِالْقِصَّةِ فَقَالَ: لَا بُدَّ لِهَذَا مِنْ سَبَبٍ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَاطْلُبُوا السَّبَبَ فَوَصَلَ جَمْعٌ مِنَ أُولَئِكَ الطَّالِبِينَ إِلَى تِهَامَةَ فَرَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا هَذَا وَاللَّهِ هُوَ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَاكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَقَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْبِ وَقَالَ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ كَذَا وَكَذَا، قَالَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَرَ الْجِنَّ إِذْ لَوْ رَآهُمْ لَمَا أَسْنَدَ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِلَى الْوَحْيِ فَإِنَّ مَا عُرِفَ وُجُودُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ لَا يُسْنَدُ إِثْبَاتُهُ إِلَى الْوَحْيِ، فَإِنْ قِيلَ: الَّذِينَ رُمُوا بِالشُّهُبِ هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالَّذِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ هُمُ الْجِنُّ فَكَيْفَ وَجْهُ الْجَمْعِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا مَعَ الشَّيَاطِينِ فَلَمَّا رُمِيَ الشَّيَاطِينُ أَخَذَ الْجِنُّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>