وَنَنْظُرُ فِيهَا. أَوَّلُهَا: وَهُوَ النُّكْتَةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي عَلَيْهَا يُعَوِّلُونَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ إِمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرُ اللَّهِ فَاعِلًا لِلْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُتَحَيِّزًا، وَذَلِكَ الْمُتَحَيِّزُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ قَادِرًا لِذَاتِهِ لَكَانَ كُلُّ جِسْمٍ كَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ لَكِنَّ الْقَادِرَ بِالْقُدْرَةِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ ابْتِدَاءً، فَقُدْرَتُنَا مُشْتَرِكَةٌ فِي امْتِنَاعِ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَهَذَا الِامْتِنَاعُ حُكْمٌ مُشْتَرَكٌ فَلَا بُدَّ له من علة مشتركة ولا مشترك هاهنا إِلَّا كَوْنُنَا قَادِرِينَ بِالْقُدْرَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ فِيمَنْ كَانَ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْقُدْرَةَ الَّتِي لَنَا لَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَهَا يُخَالِفُ بَعْضًا، فَلَوْ قَدَّرْنَا قُدْرَةً صَالِحَةً لِخَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ لَمْ تَكُنْ مُخَالَفَتُهَا لِهَذِهِ الْقُدْرَةِ أَشَدَّ مِنْ مُخَالَفَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ لِلْبَعْضِ، فَلَوْ كَفَى ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي صَلَاحِيَّتِهَا لِخَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ لَوَجَبَ فِي هَذِهِ الْقُدْرَةِ أَنْ يُخَالِفَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِخَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَادِرَ بِالْقُدْرَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ. وَثَانِيهَا:
أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَتَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعْجِزَاتِ عَلَى النُّبُوَّاتِ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا اسْتِحْدَاثَ الْخَوَارِقِ بِوَاسِطَةِ تَمْزِيجِ الْقُوَى السَّمَاوِيَّةِ بِالْقُوَى الْأَرْضِيَّةِ لَمْ يُمْكِنَّا الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ صَدَرَتْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَجُوزُ فِيهَا أَنَّهُمْ أَتَوْا بِهَا مِنْ طَرِيقِ السِّحْرِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّاتِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ فِي النَّاسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ وَالْأَلْوَانِ لَقَدَرَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ عَلَى تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ، لَكِنَّا نَرَى مَنْ يَدَّعِي السِّحْرَ مُتَوَصِّلًا إِلَى اكْتِسَابِ الْحَقِيرِ مِنَ الْمَالِ بِجُهْدٍ جَهِيدٍ، فَعَلِمْنَا كَذِبَهُ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ نَعْلَمُ فَسَادَ مَا يَدَّعِيهِ قَوْمٌ مِنَ الْكِيمْيَاءِ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ أَمْكَنَهُمْ بِبَعْضِ الْأَدْوِيَةِ أَنْ يَقْلِبُوا غَيْرَ الذَّهَبِ ذَهَبًا لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُمْكِنَهُمْ ذَلِكَ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُغْنُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْمَشَقَّةِ وَالذِّلَّةِ أَوْ لَا يُمْكِنَهُمْ إِلَّا بِالْآلَاتِ الْعِظَامِ وَالْأَمْوَالِ الْخَطِيرَةِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ لِلْمُلُوكِ الْمُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَفْطِنَ الْمُلُوكُ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ/ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِخْرَاجِ الْأَمْوَالِ وَالْكُنُوزِ، وَفِي عِلْمِنَا بِانْصِرَافِ النُّفُوسِ وَالْهِمَمِ عَنْ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ، قَالَ الْقَاضِي: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ السَّاحِرَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ ضَعِيفَةٌ جِدًّا. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا، وَإِمَّا قَائِمًا بِالْمُتَحَيِّزِ، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ مُصِرُّونَ عَلَى إِثْبَاتِ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ وَالنُّفُوسِ النَّاطِقَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا لَيْسَتْ بِمُتَحَيِّزَةٍ وَلَا قَائِمَةٍ بِالْمُتَحَيِّزِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِهَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَوْ وُجِدَ مَوْجُودٌ هَكَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لِلَّهِ تَعَالَى، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْأُسْلُوبِ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَاهِيَّةِ، سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَجْسَامِ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لِذَاتِهِ؟ قَوْلُهُ: الْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ. فَلَوْ كَانَ جِسْمٌ كَذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ جِسْمٍ كَذَلِكَ، قُلْنَا: مَا الدَّلِيلُ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْجِسْمِ إِلَّا الْمُمْتَدُّ فِي الْجِهَاتِ، الشَّاغِلُ لِلْأَحْيَازِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، قُلْنَا: الِامْتِدَادُ فِي الْجِهَاتِ وَالشُّغْلُ لِلْأَحْيَازِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهَا وَلَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْمَاهِيَّةِ مُشْتَرِكَةً فِي بَعْضِ اللَّوَازِمِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْقَادِرَ بِالْقُدْرَةِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ خَلْقُ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ؟ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي لَنَا مُشْتَرِكَةٌ فِي هَذَا الِامْتِنَاعِ وَهَذَا الِامْتِنَاعُ حُكْمٌ مُشْتَرَكٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَلَا مُشْتَرَكَ سِوَى كَوْنِنَا قَادِرِينَ بِالْقُدْرَةِ، قُلْنَا: هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ بِأَسْرِهَا مَمْنُوعَةٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ حُكْمٌ مُعَلَّلٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عدمي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute