وَالْعَدَمُ لَا يُعَلَّلُ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَلَكِنْ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ لَا يُعَلَّلُ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الأمر هاهنا كَذَلِكَ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُعَلَّلٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الْحُكْمَ الْمُشْتَرَكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ، أَلَيْسَ أَنَّ الْقُبْحَ حَصَلَ فِي الظُّلْمِ مُعَلَّلًا بِكَوْنِهِ ظُلْمًا وَفِي الْكَذِبِ بِكَوْنِهِ كَذِبًا، وَفِي الْجَهْلِ بِكَوْنِهِ جَهْلًا؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا مُشْتَرَكَ إِلَّا كَوْنُنَا قَادِرِينَ بِالْقُدْرَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَنَا مُشْتَرِكَةً فِي وَصْفٍ مُعَيَّنٍ وَتِلْكَ الْقُدْرَةُ الَّتِي تَصْلُحُ لِخَلْقِ الْجِسْمِ تَكُونُ خَارِجَةً عَنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَتْ مُخَالَفَةُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ لِبَعْضِ الْقُدَرِ أَشَدَّ مِنْ مُخَالَفَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْقُدَرِ لِلْبَعْضِ، فَنَقُولُ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّا لَا نُعَلِّلُ صَلَاحِيَّتَهَا لِخَلْقِ الْجِسْمِ بِكَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِهَذِهِ الْقُدَرِ، بَلْ لِخُصُوصِيَّتِهَا الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَالَفَتْ سَائِرَ الْقُدَرِ وَتِلْكَ الْخُصُوصِيَّةُ مَعْلُومٌ أَنَّهَا غَيْرُ حَاصِلَةٍ فِي سَائِرِ الْقُدَرِ.
وَنَظِيرُ مَا ذَكَرُوهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَتْ مُخَالَفَةُ الصَّوْتِ لِلْبَيَاضِ بِأَشَدَّ مِنْ مُخَالَفَةِ السَّوَادِ لِلْبَيَاضِ، فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ مَانِعَةً لِلصَّوْتِ مِنْ صِحَّةِ أَنْ يُرَى لَوَجَبَ لِكَوْنِ السَّوَادِ مُخَالِفًا لِلْبَيَاضِ أَنْ يَمْتَنِعَ رُؤْيَتُهُ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فَاسِدًا فَكَذَا مَا قَالُوهُ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَمَّا حَكَى هَذِهِ الْوُجُوهَ عَنِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَزَيْفِهَا بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَفْسَهُ تَمَسَّكَ بِهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَنَا. أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ/ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ النُّبُوَّاتِ لَا يَبْقَى مَعَ تَجْوِيزِ هَذَا الْأَصْلِ فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّاتِ مُتَفَرِّعًا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَوْ لَا يَكُونُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ امْتَنَعَ فَسَادُ هَذَا الْأَصْلِ بِالْبِنَاءِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّاتِ، وَإِلَّا وَقَعَ الدَّوْرُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْكَلَامُ فِي الْإِمْكَانِ غَيْرٌ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَاصِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ هَذِهِ الْحَالَةُ لَا تَحْصُلُ لِلْبَشَرِ إِلَّا فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَبَاعِدَةِ فَكَيْفَ يَلْزَمُنَا مَا ذَكَرْتُمُوهُ؟ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ السِّحْرِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ السِّحْرِ: سِحْرُ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ وَالنَّفْسِ الْقَوِيَّةِ، قَالُوا: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: «أَنَا» مَا هُوَ؟ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ هُوَ هَذِهِ الْبِنْيَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ جِسْمٌ صَارَ فِي هَذِهِ الْبِنْيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَلَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِجِسْمَانِيٍّ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذِهِ الْبِنْيَةُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْبِنْيَةَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ الْبَارِدَةِ أَنْ يَكُونَ مِزَاجُهُ مِزَاجًا مِنَ الْأَمْزِجَةِ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ عَنَّا وَالْمُتَعَذِّرَةِ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ إِذَا قُلْنَا الْإِنْسَانُ جِسْمٌ سار فِي هَذِهِ الْبِنْيَةِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ النَّفْسُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: النُّفُوسُ مُخْتَلِفَةٌ فَيَتَّفِقُ فِي بَعْضِ النُّفُوسِ إِنْ كَانَتْ لِذَاتِهَا قَادِرَةً عَلَى هَذِهِ الْحَوَادِثِ الْغَرِيبَةِ مُطَّلِعَةً عَلَى الْأَسْرَارِ الْغَائِبَةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ مِمَّا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى فَسَادِهِ سِوَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ بَانَ بُطْلَانُهَا، ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ وُجُوهٌ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الْجِذْعَ الَّذِي يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مَوْضُوعًا عَلَى الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ كَالْجِسْرِ عَلَى هَاوِيَةٍ تَحْتَهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ تَخَيُّلَ السُّقُوطِ مَتَى قَوِيَ أَوْجَبَهُ، وَثَانِيهَا:
اجْتَمَعَتِ الْأَطِبَّاءُ عَلَى نَهْيِ الْمَرْعُوفِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْحُمْرِ، وَالْمَصْرُوعِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ اللَّمَعَانِ وَالدَّوَرَانِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مُطِيعَةً لِلْأَوْهَامِ، وَثَالِثُهَا: حَكَى صَاحِبُ الشِّفَاءِ عَنْ «أَرِسْطُو» في طبائع الحيوان: أن الدجاجة إذا تشبهت كثيراً بالديكة في الصوت وفي الحراب مَعَ الدِّيَكَةِ نَبَتَ عَلَى سَاقِهَا مِثْلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute