للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَعَالَى: أَوْ نُنْسِها فَالْمُرَادُ نَتْرُكُهَا كَمَا كَانَتْ فَلَا نُبَدِّلُهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّسْيَانَ بِمَعْنَى التَّرْكِ قَدْ جَاءَ، فَيَصِيرُ حَاصِلُ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي نُبَدِّلُهُ فَإِنَّا نَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، أَيْ مَا نَرْفَعْهَا بَعْدَ إِنْزَالِهَا أَوْ نَنْسَأْهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْهَمْزَةِ أَيْ نُؤَخِّرْ إِنْزَالَهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ نُؤَخِّرُ نَسْخَهَا فَلَا نَنْسَخُهَا فِي الْحَالِ، فَإِنَّا نُنَزِّلُ بَدَلَهَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْمَصْلَحَةِ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ مَعًا، أَوْ نُنْسِهَا، أَيْ نَتْرُكْهَا وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي الْحُكْمِ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ فِي التِّلَاوَةِ، بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ فِي التِّلَاوَةِ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، أَيْ نَنْسَخْهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ نَنْسَأْهَا، نُؤَخِّرْهَا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ «نُنْسِهَا» فَالْمَعْنَى نَتْرُكُهَا يَعْنِي نَتْرُكُ نَسْخَهَا فَلَا نَنْسَخُهَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ آيَةٍ فَكُلُّ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوهُ عَلَى الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَ أَبِي مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها فَفِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْأَخَفُّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْأَصْلَحُ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى يَصْرِفُ الْمُكَلَّفُ عَلَى مَصَالِحِهِ لَا عَلَى مَا هُوَ أَخَفُّ عَلَى طِبَاعِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الثَّانِي أَصْلَحَ مِنَ الْأَوَّلِ لَكَانَ الْأَوَّلُ نَاقِصَ الصَّلَاحِ فَكَيْفَ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؟ قُلْنَا: الْأَوَّلُ أَصْلَحُ مِنَ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي بِالْعَكْسِ مِنْهُ فَزَالَ السُّؤَالُ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اسْتَنْبَطُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَكْثَرَ مَسَائِلِ النَّسْخِ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ إِلَّا إِلَى بَدَلٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا نَسَخَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ أَوْ بِمَا يَكُونُ مِثْلَهُ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْبَدَلِ.

وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَإِسْقَاطَ التَّعَبُّدِ بِهِ خَيْرٌ مِنْ ثُبُوتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ لَا إِلَى بَدَلٍ أَنَّهُ نَسَخَ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إِلَى البدل.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ الشَّيْءِ إِلَى مَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ قَوْلَهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يُنَافِي كَوْنَهُ أَثْقَلَ، لِأَنَّ الْأَثْقَلَ لَا يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ وَلَا مِثْلَهُ. وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَا يَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَسَخَ فِي حَقِّ الزُّنَاةِ الْحَبْسَ فِي الْبُيُوتِ إِلَى الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَنَسَخَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ قَوْمٍ فَنُسِخَتْ بِأَرْبَعٍ فِي الْحَضَرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا نَسْخُ الشَّيْءِ إِلَى الْأَثْقَلِ فَقَدْ وَقَعَ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَمَّا نَسْخُهُ إِلَى الْأَخَفِّ فَكَنَسْخِ الْعِدَّةِ مِنْ حَوْلٍ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَكَنَسْخِ صَلَاةِ اللَّيْلِ إِلَى التَّخْيِيرِ فِيهَا. وَأَمَّا نَسْخُ الشَّيْءِ إِلَى الْمِثْلِ فَكَالتَّحْوِيلِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْكِتَابُ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ مَا يَنْسَخُهُ مِنَ الْآيَاتِ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُ يَأْتِي بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ: مَا آخُذُ مِنْكَ مِنْ ثواب آتِيكَ بِخَيْرٍ مِنْهُ، يُفِيدُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ بِثَوْبٍ مِنْ جِنْسِهِ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ فَجِنْسُ الْقُرْآنِ قُرْآنٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها يفيد أنه هو المنفرد