للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالإتيان بذلك الخير، وذلك هو الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ السُّنَّةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَالِثُهَا:

أَنَّ قَوْلَهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها يُفِيدُ أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْآيَةِ، وَالسُّنَّةُ لَا تَكُونُ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْآتِيَ بِذَلِكَ الْخَيْرِ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَى جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ عَنِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ بِأَسْرِهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها لَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الْخَيْرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، بَلْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيْرُ شَيْئًا مُغَايِرًا لِلنَّاسِخِ يَحْصُلُ بَعْدَ حُصُولِ النَّسْخِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِتْيَانَ بِذَلِكَ الْخَيْرِ مُرَتَّبٌ عَلَى نَسْخِ الْآيَةِ الْأَوْلَى، فَلَوْ كَانَ نَسْخُ تِلْكَ الْآيَةِ مُرَتَّبًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْخَيْرِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ، ثُمَّ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى وُقُوعِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ آيَةَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِينَ مَنْسُوخَةٌ

بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»

وَبِأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِخَبَرِ الرَّجْمِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَضَعِيفٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْمِيرَاثِ حَقًّا لِلْوَارِثِ يَمْنَعُ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْوَصِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ آيَةَ الْمِيرَاثِ مَانِعَةٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا الثَّانِي:

/ فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى أَنَّ قَوْلَهُ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ» كَانَ قُرْآنًا فَلَعَلَّ النَّسْخَ إِنَّمَا وَقَعَ بِهِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَتَنْبِيهٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى تَصْرِيفِ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا دَافِعَ لِمَا أَرَادَ وَلَا مَانِعَ لِمَا اخْتَارَ.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: «١» اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ كَانَ قَدِيمًا لَكَانَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ قَدِيمَيْنِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، لَأَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمَنْسُوخِ، وَالْمُتَأَخِّرُ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، وَأَمَّا الْمَنْسُوخُ فَلِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَزُولَ وَيَرْتَفِعَ، وَمَا ثَبَتَ زَوَالُهُ اسْتَحَالَ قِدَمُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَسْخِ بَعْضِهَا وَالْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ آخَرَ بَدَلًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَمَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْقُدْرَةِ وَكَانَ فِعْلًا كَانَ مُحْدَثًا، أَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ كَوْنَهُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ وَاللُّغَاتِ وَلَا نِزَاعَ فِي حُدُوثِهَا، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْعِبَارَاتِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ مُحْدَثٌ؟ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْعِبَارَاتِ وَاللُّغَاتِ لَا شَكَّ أَنَّ تَعَلُّقَهُ الْأَوَّلَ قَدْ زَالَ وَحَدَثَ لَهُ تَعَلُّقٌ آخَرُ، فَالتَّعَلُّقُ الْأَوَّلُ مُحْدَثٌ لِأَنَّهُ زَالَ وَالْقَدِيمُ لَا يَزُولُ، وَالتَّعَلُّقُ الثَّانِي حَادِثٌ لأنه حصل بعد ما لَمْ يَكُنْ، وَالْكَلَامُ الْحَقِيقِيُّ لَا يَنْفَكُّ عَنْ هَذِهِ التَّعَلُّقَاتِ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ هَذِهِ التَّعَلُّقَاتِ [مُحْدَثٌ] وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ وَالْكَلَامُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا. أَجَابَ الْأَصْحَابُ: أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ كَانَتْ فِي الْأَزَلِ مُتَعَلِّقَةً بِإِيجَادِ الْعَالِمِ، فَعِنْدَ دُخُولِ الْعَالَمِ فِي الْوُجُودِ هَلْ بَقِيَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ أَوْ لَمْ يَبْقَ؟ فَإِنْ بَقِيَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَادِرُ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ فَيَلْزَمُكُمْ حُدُوثُ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ، وَكَذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَنَّ الْعَالَمَ سَيُوجَدُ، فَعِنْدَ دُخُولِ الْعَالَمِ فِي الْوُجُودِ إِنْ بَقِيَ التَّعَلُّقُ الْأَوَّلُ كَانَ جهلًا، وإن لم يبق


(١) هذه المسألة من فروع مسائل النسخ وقد تكلم المؤلف رحمه الله على ثمان مسائل منها مرت إلى ص ٦٤١ من هذا الجزء.