بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها
[آلِ عِمْرَانَ: ١١٩، ١٢٠] وَكَذَا قَالَ: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٨] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّقَاتُلِ.
السَّبَبُ الثَّانِي: التَّعَزُّزُ، فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْ أَمْثَالِهِ إِذَا نَالَ مَنْصِبًا عَالِيًا تَرَفَّعُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ تَحَمُّلُ ذَلِكَ، فَيُرِيدُ زَوَالَ ذَلِكَ الْمَنْصِبِ عَنْهُ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِهِ أَنْ يَتَكَبَّرَ، بَلْ غَرَضُهُ أَنْ يَدْفَعَ كِبْرَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَرْضَى بِمُسَاوَاتِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَرْضَى بِتَرَفُّعِهِ عَلَيْهِ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي طَبِيعَتِهِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ غَيْرَهُ فَيُرِيدُ زَوَالَ النِّعْمَةِ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ لِيَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كَانَ حَسَدُ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ قَالُوا: كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْنَا غُلَامٌ يَتِيمٌ وَكَيْفَ نُطَأْطِئُ لَهُ رؤوسنا؟ فَقَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: ٣١] وَقَالَ تَعَالَى يَصِفُ قَوْلَ قُرَيْشٍ: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَامِ: ٥٣] كَالِاسْتِحْقَارِ بِهِمْ وَالْأَنَفَةِ مِنْهُمْ.
السَّبَبُ الرَّابِعُ: التَّعَجُّبُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ إِذْ قَالُوا: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [إبراهيم: ١٠] ، وَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [المؤمنون: ٤٧] ، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٤] وَقَالُوا مُتَعَجِّبِينَ: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: ٩٤] وَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الْفُرْقَانِ: ٢١] وَقَالَ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ [الْأَعْرَافِ: ٦٣، ٦٩] .
السَّبَبُ الْخَامِسُ: الْخَوْفُ مِنْ فَوْتِ الْمَقَاصِدِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْمُتَزَاحِمِينَ عَلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْسُدُ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ تَكُونُ عَوْنًا لَهُ فِي الِانْفِرَادِ بِمَقْصُودِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَحَاسُدُ الضَّرَّاتِ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى مَقَاصِدِ الزَّوْجِيَّةِ، وَتَحَاسُدُ الْإِخْوَةِ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى نَيْلِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ الْأَبَوَيْنِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مَقَاصِدِ الْمَالِ وَالْكَرَامَةِ، وَكَذَلِكَ تَحَاسُدُ الْوَاعِظِينَ الْمُتَزَاحِمِينَ عَلَى أَهْلِ بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، إِذْ كَانَ غَرَضُهُمَا نَيْلَ الْمَالِ وَالْقَبُولِ عِنْدَهُمْ.
السَّبَبُ السَّادِسُ: حُبُّ الرِّيَاسَةِ وَطَلَبُ الْجَاهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّلٍ بِهِ إِلَى مَقْصُودِهِ، وَذَلِكَ كَالرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَدِيمَ النَّظِيرِ فِي فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَمِعَ بِنَظِيرٍ لَهُ فِي أَقْصَى الْعَالَمِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَأَحَبَّ مَوْتَهُ وَزَوَالَ النِّعْمَةِ الَّتِي بِهَا يُشَارِكُهُ فِي الْمَنْزِلَةِ مِنْ شَجَاعَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ زُهْدٍ أَوْ ثَرْوَةٍ وَيَفْرَحُ بِسَبَبِ تَفَرُّدِهِ.
السَّبَبُ السَّابِعُ: شُحُّ النَّفْسِ بِالْخَيْرِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ تَجِدُ مَنْ لَا يَشْتَغِلُ بِرِيَاسَةٍ وَلَا بِكِبْرٍ وَلَا بِطَلَبِ مَالٍ إِذَا وُصِفَ عِنْدَهُ حُسْنُ حَالِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِذَا وُصِفَ اضْطِرَابُ أُمُورِ النَّاسِ وَإِدْبَارُهُمْ وَتَنَغُّصُ عَيْشِهِمْ فَرِحَ بِهِ فَهُوَ أَبَدًا يُحِبُّ الْإِدْبَارَ لِغَيْرِهِ وَيَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، كَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ وَخِزَانَتِهِ، وَيُقَالُ: الْبَخِيلُ مَنْ بَخِلَ بِمَالِ غَيْرِهِ، فَهَذَا يَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ لَا عَدَاوَةٌ وَلَا رَابِطَةٌ وَهَذَا لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ إِلَّا خُبْثُ النَّفْسِ وَرَذَالَةُ جِبِلَّتِهِ فِي الطَّبْعِ، لِأَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْحَسَدِ يُرْجَى زَوَالُهُ لِإِزَالَةِ سَبَبِهِ، وَهَذَا خُبْثٌ فِي الْجِبِلَّةِ لَا عَنْ سَبَبٍ عَارِضٍ فَتَعْسُرُ إِزَالَتُهُ. فَهَذِهِ هِيَ أَسْبَابُ الْحَسَدِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَوْ أَكْثَرُهَا أَوْ جَمِيعُهَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَعْظُمُ فِيهِ الْحَسَدُ وَيَقْوَى قُوَّةً لَا يَقْوَى صَاحِبُهَا مَعَهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute