أَوْ يَمْرَضَ حَتَّى لَا يُعَلِّمَ وَلَا يَتَعَلَّمَ وَأَيُّ إِثْمٍ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَيُّ مَرْتَبَةٍ أَخَسُّ مِنْ هَذِهِ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَيُّهَا الْحَاسِدُ أَنَّكَ بِمَثَابَةِ مَنْ يَرْمِي حَجَرًا إِلَى عَدُوِّهِ لِيُصِيبَ بِهِ مَقْتَلَهُ فَلَا يُصِيبُهُ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى حَدَقَتِهِ الْيُمْنَى فَيَقْلَعُهَا فَيَزْدَادُ غَضَبُهُ فَيَعُودُ وَيَرْمِيهِ ثَانِيًا أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ فَيَرْجِعُ الْحَجَرُ عَلَى عَيْنِهِ الْأُخْرَى فَيُعْمِيهِ فَيَزْدَادُ غَيْظُهُ وَيَعُودُ ثَالِثًا فَيَعُودُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَشُجُّهُ وَعَدُوُّهُ سَالِمٌ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَالْوَبَالُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ دَائِمًا وَأَعْدَاؤُهُ حَوَالَيْهِ يَفْرَحُونَ بِهِ وَيَضْحَكُونَ عَلَيْهِ، بَلْ حَالُ الْحَاسِدِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا لِأَنَّ الْحَجَرَ الْعَائِدَ لَمْ يُفَوِّتْ إِلَّا الْعَيْنَ وَلَوْ بَقِيَتْ لَفَاتَتْ بِالْمَوْتِ، وَأَمَّا حَسَدُهُ فَإِنَّهُ يَسُوقُ إِلَى غَضَبِ اللَّهِ وَإِلَى النَّارِ، فَلَأَنْ تَذْهَبَ عَيْنُهُ فِي الدُّنْيَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَبْقَى لَهُ عَيْنٌ وَيَدْخُلَ بِهَا النَّارَ فَانْظُرْ كَيْفَ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنَ الْحَاسِدِ إِذَا أَرَادَ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ فَمَا أَزَالَهَا عَنْهُ ثُمَّ أَزَالَ نِعْمَةَ الْحَاسِدِ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فَاطِرٍ: ٤٣] فَهَذِهِ الْأَدْوِيَةُ الْعِلْمِيَّةُ فَمَهْمَا تَفَكَّرَ/ الْإِنْسَانُ فِيهَا بِذِهْنٍ صَافٍ وَقَلْبٍ حَاضِرٍ انْطَفَأَ مِنْ قَلْبِهِ نَارُ الْحَسَدِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ النَّافِعُ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَفْعَالِ الْمُضَادَّةِ لِمُقْتَضَيَاتِ الْحَسَدِ، فَإِنْ بَعَثَهُ الْحَسَدُ عَلَى الْقَدْحِ فِيهِ كَلَّفَ لِسَانَهُ الْمَدْحَ لَهُ وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ كَلَّفَ نَفْسَهُ التَّوَاضُعَ لَهُ وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى قَطْعِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ عَنْهُ كَلَّفَ نَفْسَهُ السَّعْيَ فِي إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ إِلَيْهِ، فَمَهْمَا عَرَفَ الْمَحْسُودُ ذَلِكَ طَابَ قَلْبُهُ وَأَحَبَّ الْحَاسِدَ وَذَلِكَ يُفْضِي آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى زَوَالِ الْحَسَدِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحْسُودَ إِذَا أَحَبَّ الْحَاسِدَ فَعَلَ مَا يُحِبُّهُ الْحَاسِدُ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْحَاسِدُ مُحِبًّا لِلْمَحْسُودِ وَيَزُولُ الْحَسَدُ حِينَئِذٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الْحَاسِدَ إِذَا أَتَى بِضِدِّ مُوجِبَاتِ الْحَسَدِ عَلَى سَبِيلِ التَّكَلُّفِ يَصِيرُ ذَلِكَ بِالْآخِرَةِ طَبْعًا لَهُ فَيَزُولُ الْحَسَدُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ النَّفْرَةَ الْقَائِمَةَ بِقَلْبِ الْحَاسِدِ مِنَ الْمَحْسُودِ أَمْرٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي وُسْعِهِ، فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؟ وَأَمَّا الَّذِي فِي وُسْعِهِ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ رَاضِيًا بِتِلْكَ النَّفْرَةِ، وَالثَّانِي: إِظْهَارُ آثَارِ تِلْكَ النَّفْرَةِ مِنَ الْقَدْحِ فِيهِ وَالْقَصْدُ إِلَى إِزَالَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ وَجَرُّ أَسْبَابِ الْمَحَبَّةِ إِلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ:
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ رُجُوعَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ صَوَابٌ وَحَقٌّ، وَالْعَالِمُ بِأَنَّ غَيْرَهُ عَلَى حَقٍّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ رَدَّهُ عَنْهُ إِلَّا بِشُبْهَةٍ يُلْقِيهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُحِقَّ لَا يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ إِلَّا بِشُبْهَةٍ وَالشُّبْهَةُ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا يَتَّصِلُ بِالدُّنْيَا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَلِمْتُمْ مَا نَزَلَ بِكُمْ مِنْ إِخْرَاجِكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَضِيقِ الْأَمْرِ عَلَيْكُمْ وَاسْتِمْرَارِ الْمَخَافَةِ بِكُمْ، فَاتْرُكُوا الْإِيمَانَ الَّذِي سَاقَكُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَالثَّانِي: فِي بَابِ الدِّينِ: بِطَرْحِ الشُّبَهِ فِي الْمُعْجِزَاتِ أَوْ تَحْرِيفِ مَا فِي التَّوْرَاةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ»
:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ حُبَّهُمْ لِأَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْإِيمَانِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْحَسَدِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ:
عَنَى بِقَوْلِهِ: كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى وَأَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ فِعْلُهُمْ لَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِ «ود» على معنى أنهم أحبوا
(١) لم يورد المؤلف غير هذه المسألة المنفردة التالية.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute